كثرت في الآونة الأخيرة الكتب التي تتناول تاريخ مدينة جدة والتي خرجت إلى المتلقي بضروب متنوعة، منها ما يحمل طابع الكتابة التاريخية الممنهجة ومنها ما جاء في طابع مذكرات أو تسجيل لأحداث وصنف آخر أخذ شكل العمل الإبداعي فخرج بصيغة رواية، ومنها أيضاً من جاءت كتاباته عن حياته في حاراتها وبين شوارعها العتيقة، وثمة من ينادي أن تاريخ عروس البحر لا يمكن كتابته إلا من قبل أبنائها دون أن يأخذ في باله الشروط العلمية للكتابة التاريخية حتى وإن كان الكاتب ينتمي إلى أي بقعة على وجه المعمورة، فجدة سبق أن تناول الرحالة من عرب وغربيين جزءاً من سيرتها، فكانت من أهم المراجع لمن رام الكتابة عنها. باناجه: من المفيد تعدد الكتب عن جدة وذلك لتجميع أكثر المعلومات هنا ومن خلال مختصين كتبوا عنها سنوضح عبر آرائهم كيفية الكتابة عن هذه المدينة الفاتنة. في مطلع هذا الاستطلاع يتحدث معالي الدكتور عبدالإله باناجه مؤكداً أن ما كتب عن جدة يعد توثيقاً للأجيال القادمة وقال أيضاً: فإنني أرى أنه من الطبيعي أن يكتب أي شخص عن المدينة التي يعيش - أو عاش – فيها ويتحدث عن ذكرياته وذكريات آبائه واجداده فيها، إضافة إلى التحدث عن تاريخها وموروثها والأحداث التي حدثت فيها. أما بالنسبة لزيادة أعداد من يكتبون في الفترة الأخيرة عن مدينة جدة، أرى أن ذلك ظاهرة طبيعية، لأنه من حق أي شخص أن يكتب ويوثق ما لديه من معلومات ليستطيع الناس سواء أكانوا مقيمين في جدة أو خارجها أن يتعرفوا على هذه المدينة الممتدة بتاريخها منذ أقدم العصور وحتى الآن. وما كتب عنها أما أنه توثيق لتاريخها وعاداتها وموروثها والأحداث التي مرت بها خلال الفترات المختلفة من التاريخ، أو أنه توثيق لما عرفه الكاتب أو سمع عنه من آبائه وأجداده أو جيرانه أو حتى قد يكون عاشه – أو عاصر جزءا منه – ولذلك فإنه في جميع الحالات أمر مفيد لاطلاع الراغبين وتوثيق جيد للأجيال القادمة والباحثين فيما بعد . وليس بالضرورة أن كل من يكتب – أو كتب – عن مدينة جدة هو من أهلها، فهناك عدد من الكتب كتبت من أشخاص من خارج المدينة. إن الكتاب الذين كتبوا عن جدة عدد قليل منهم هم من كتبوا عما عاصروه، أما الأغلبية العظمى فمنهم من عاصر بعض الأحداث والعادات التي كتب عنها أو أنه سمعها – أو جزء منها - من أهله الذين عاشوا معه وانتقلوا إلى رحمة الله. وبالتالي فإن ما كتبه لم يكن يعرفه غيرهم، وهو بالتأكيد زيادة قيمة في المعلومات المتوفرة عن ما كتبوه وتوثيق جيد لحياة الناس والأهالي وعاداتهم وموروثهم. فمن المفيد حتما تعدد الكتب لتجميع أكبر كمية ونوعية من المعلومات، وهو أيضا تشجيع لسكان المدن الأخرى للكتابة عن مدينتهم وذكرياتهم وعاداتهم وأهم ما حدث من أحداث في هذه المدينة، لأنهم بالتأكيد سيكتبون ما لا يستطيع غيرهم من أشخاص لم يعيشوا في هذه المدينة في الفترات المختلفة أن يكتبوا عنها وعن أحداثها على مر الزمن وعن عادات وموروث أهلها. ومن الجانب العلمي لكتابة التاريخ يكشف الباحث الدكتور عبدالرحمن بن سعد العرابي أهمية أن يتسلح الباحث بالمنهجية العلمية، كما يفرق بين الكتابة العلمية وكتابة المذكرات ورصد الأحداث، وأضاف العرابي: ملاحظ في ايامنا هذه اندفاع كبير للكتابة في تاريخ جدة خاصة لمن هم من سكانها وهذا في حد ذاته مؤشر ايجابي إن التزم بالمنهجية التاريخية وهي منهجية تتطلب أدواتاً وشروطاً ليس بمقدور كل أحد أن يسلكها. وللتفصيل أقول بدءاً أنه لابد من التفريق فيما نطلق عليه كتابة تاريخية بين ثلاثة أنواع سائدة في كل المجتمعات البشرية وهي: 1- كتابة المذكرات واليوميات. 2- التسجيل للأحداث، شهود العيان، الحكواتية. 3- المؤرخ. ولكل واحدة من هذه مزاياها وايجابياتها كما لها سلبيات فكتابة المذكرات انما هي تسجيل لذكريات ذاتية سواء لمسؤول حكومي أو شخصية اعتبارية أو حتى يوميات لإنسان عادي يكتبها بذاته كما حدث مع البديري الحلاق أحد حلاقي مدينة دمشق في القرن الثامن عشر الميلادي والذي أصبح مرجعاً هاماً لأحداث دمشق الاجتماعية إبان تلك الفترة. والنوع الثاني وهو التسجيل فكثير مما نسميه اليوم "تاريخ" إنما تم تسجيله رصداً لأحداث يومية يشكل فقط وصفاً لما كان يحدث سواءاً كمشاهدة مثل كتابات الرحالة أو سماعاً ومعايشة كما في معظم روايات الطبري وابن الاثير وابن خلدون والجبرتي أو الحكايات الشعبية المروية عن طريق الحكواتي كما في قصص عنترة وأبو زيد الهلالي أو أحياناً في الأساطير والخرافات المحكية والتي لا تخرج عن كونها قصص وحكاوي شعبية. وهذان النوعان من الكتابة وأقصد كتابة المذكرات وتسجيل الأحداث ليسا بالضرورة خاضعين لمنهجية الكتابة التاريخية التي تتطلب الكثير من المتطلبات والشروط من أهمها التوثيق الدقيق وفحص الروايات وتحليلها وليس فقط النقل. ثم يمضي الدكتور العرابي موضحاً الطريق الأخيرة للكتابة إذا يقول: أما النوع الثالث وهو ما يكتبه المؤرخ وخاصة في عصرنا هذا وبعد التطور الهائل في أدوات المؤرخ وتوفر كافة الوسائل المساعدة فهي ما يمكن أن نطلق عليه كتابة تاريخية بالمعنى المهني الصرف والأكاديمي العلمي. فالمؤرخ ليس كل أحد بل هو من تدرب وتأهل وامتلك كل مقومات المنهجية التاريخية من موضوعية وبعد نظر وجدية ومقدرة على التحليل والنقل والاستنتاج والمقارنة بل إن ما يعرف بفلسفة التاريخ تبحث أكثر من مجرد التأريخ فهي تغوص في مسببات الأحداث وقراءتها بعمق بسبر أغوار ما بين سطورها وخلفها. وبهكذا معيار فإن ما كُتب عن جدة لا يمكن اعتباره كتابة تاريخية رغم قيمة وفائدة بعضها فمثلاً ما كتبه عبدالقدوس الأنصاري في كتابه "موسوعة تاريخ مدينة جدة" لا تنطبق عليه معايير الكتابة التاريخية المنهجية فهو ليس سوى تسجيل لأحداث ووصف لواقع عايشه المؤلف بعفوية وحتى الأجزاء الخاصة بقدم جدة وبعضاً من أحداثها التاريخية لم يعمل فيها بمبضع المؤرخ تحليلاً وتشريحاً بل نقلاً عن ما ذكره آخرون قبله. ومع ذلك يبقى هذا الكتاب مرجعاً لا يُستغنى عنه في الكتابة التاريخية عن جدة. كذلك ما كتبه من يسمونه معاصراً مؤرخ جدة محمد رقام فإنما هو راصد لواقع عايشه بنقله، كما هو وسيكون لأجيال قادمة جزءاً من تاريخ جدة الاجتماعي أو الجانب التاريخي المهني وحينها ربما سيخضع لمشرط وتحليل المؤرخين لتأكيد ونفي أو اثبات ما سجله الرقام. وهكذا ما كتبه الصديق العزيز محمد صادق دياب يرحمه الله في كتابه "جدة التاريخ والحياة الاجتماعية" فرغم قيمتها المعرفية إلا أنها لم تخضع لشروط ومعايير الكتابة التاريخية المنهجية ولمجرد التدليل وقد ناقشت ذلك في بحث لي عن الاسطورة في تاريخ جدة استند الدياب على ما كتبه أحمد السباعي في كتابه "تاريخ مكة" عن تسمية حارة المظلوم وقد بينت أن هذا النقل لرواية اسطورية بحتة وليس له علاقة نهائياً بالتسمية الحقيقية للحارة والتي تنسب الى عفيف الدين عبدالله المظلوم أحد الأولياء في جدة وقد كتب عنه كل من جار الله بن فهد المؤرخ المكي الشهير قبل (209) سنة وعبدالقادر بن فرج قبل (126) سنة من حادثة مقتل عبدالكريم البرزنجي في عام 1136م التي نقلها الدياب عن السباعي والمتداولة بقوة بين الاوساط المجتمعية. ويختتم الباحث العرابي رؤيته: هذا بالطبع لا ينفي إمكانية الكتابة عن تاريخ جدة أو تسجيل أحداثها لمن يرى في نفسه القدرة كما هو حادث الآن لكن إن كان ولابد فلدينا وبحمد الله مؤسسات اكاديمية وبحثية متخصصة كجامعة الملك عبدالعزيز ومركز تاريخ البحر الأحمر لديهم متخصصون في تاريخ جدة والحجاز بإمكانهم المساعدة في تقييم العمل المكتوب والإرشاد إلى الوسيلة الأنسب لإخراج عمل يليق بمدينة عريقة كمدينة جدة. من جهته أشار الباحث الدكتور عدنان عبدالبديع اليافي إلى جملة من المؤلفات التي كتبت عن جدة مبرزاً عدم تكرارها وهي توثق لجدة من عدة زوايا وذكر أيضاً: إن أهمية جدة تكمن في أنها ميناء مكةالمكرمة. وباستثناء الفترة من سنة 9 إلى 26 هجرية فقد كانت جُدَّة دوماً ميناء لمكةالمكرمة منذ فترة ما قبل الإسلام، ففي عام 9 هجرية أصبحت الشعيبة ميناء مكة ولكن في عام 26 هجرية أمر الخليفة الراشد سيدنا عثمان بن عفان بأن تعود جُدَّة ميناء لمكةالمكرمة. ومع انتشار الإسلام إلى خارج جزيرة العرب ودخول العديد من الأمصار في دين الله ازدادت أهمية جُدَّة وتوسع مينائها. وبالرغم من أهمية جُدَّة إلا أن المؤرخين لم يعتنوا بتاريخها عنايتهم بتاريخ مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة التي أفردت العديد من الكتب لذلك التاريخ منذ القرون الهجرية الأولى ولكن من حسن الحظ فقد جاءت كتب تاريخ مكة على بعض من تاريخ جُدَّة كما أن الرحالة العرب والمسلمين وغيرهم تحدثوا عن جُدَّة وأهلها، ومساكنهم، وأسواقهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، وتجارتهم، وغير ذلك .. مما ساعد في الحفاظ على أجزاء من تاريخ هذه المدينة العريقة التي يعود تاريخها إلى زمن موغل في القدم. فمن المعروف أن قضاعة وثمود سكنوها كما تذكر بعض المصادر التاريخية أن أم البشر حواء سكنت جُدَّة وأنها مدفونة فيها وهو أمر يصعب إثباته أو نفيه. وفي أواخر القرن العاشر كتب مؤرخ جُدَّة ابن فرج المتوفى عام 1010 ه -رحمه الله- كتاباً أفرده لتاريخ جُدَّة ووسمه (السلاح والعدّة في تاريخ بندر جُدَّة) ويعد ذلك أول، وقيل ثاني كتاب أفرد لتاريخ جُدَّة، حيث تذكر بعض المصادر أن ابن ظهيرة المتوفى عام 986 ه كتب في القرن العاشر كتاب أسماه (تاريخ جُدَّة) إلا أن ذلك الكتاب مفقود ولم نجد له أثراً. ويواصل اليافي طرحه قائلاً: بعد حوالي ثلاثمائة عام من كتاب ابن فرج أصدر المؤرخ أحمد الحضراوي -رحمه الله- المتوفى عام 1327ه كتاباً وسمه (الجواهر المعدة في فضائل جُدَّة) ومنذ ذلك الزمن البعيد وحتى عام 1383ه/1963م تقاعس المؤرخون عن إصدار كتب تعني بجُدَّة وتاريخها حتى قيض الله عز وجل المؤرخ السعودي عبدالقدوس الأنصاري – رحمه الله – فأصدر كتابه (موسوعة تاريخ جُدَّة) . وقد أعطى ذلك السفر دفعة لأبناء وبنات جُدَّة فبدئوا بتناول جُدَّة وتاريخها من زوايا مختلفة أسوة بما فعله العديد من أخوتهم المواطنين السعوديين في بعض مدن المملكة العربية السعودية الأخرى وكما فعل العديد من المؤرخين العرب والمسلمين والأوربيين وغيرهم بتناولهم لتواريخ مدنهم من زوايا مختلفة . فعلى سبيل المثال لا الحصر أصدرت السيدة نوال سراج ششه كتاباً عن (جُدَّة في مطلع القرن العاشر الهجري) وأصدرت الباحثة صابرة أسماعيل كتابها (جُدَّة خلال الفترة 1286-1326ه/1869-1908م، دراسة تاريخية وحضارية في المصادر المعاصرة)، والأستاذة ليلي النعماني كتاباً وسمته (ذاكرة الزمن الجميل - جُدَّة التي أحببتها)، كما أصدرت الباحثة سلوي عبدالقادر السليمان إصداراً عن (جُدَّة في العصر المملوكي)، كما أصدرت الباحثة فاطمة عبدالعزيز الحمدان كتاباً وسمته (مدينة جُدَّة –الموقع، البيئة، العمران، السكان) وقام الأستاذ محمد صادق دياب –رحمه الله – بكتابة كتاب عن (التاريخ والحياة الاجتماعية في جُدَّة) وأصدر الأستاذ وهيب كابلي كتابا عن (الحرفيون في مدينة جُدَّة) والأستاذ إبراهيم حسون كتاب (خواطر وذكريات)، والدكتور مبارك محمد المعبدي كتاب (النشاط التجاري لميناء جُدَّة خلال الحكم العثماني)، والأستاذ خالد محمد باطرفي كتاب (جُدَّة أم الرخا والشدة) . ونشر الكاتب الأستاذ محمد طرابلسي كتابه الذي وسمه (جُدَّة حكاية مدينة) وقام الأستاذ الدكتور عبدالرزاق ابو داود بإصدار عدة كتب عن جُدَّة منها (جُدَّة معطيات المكان وأفاق الزمان) وكتب الأستاذ الدكتور عبدالاله باناجه كتاباً عن (جُدَّة من أقدم العصور وحتى نهاية العصر العثماني) ونشر الدكتور جمعان دادا الغامدي كتابه عن (جُدَّة في عهد الملك عبدالعزيز –رحمه الله 1925-1953م). وأصدر كاتب هذه السطور كتاباً عن جُدَّة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وسمه (جُدَّة في صدر الإسلام) كما أصدر كتابه (جُدَّة في شذرات الغزاوي) تحدث فيه عن ما ذكره الغزاوي في شذراته بما يخص جُدَّة. وقام بعض الروائيين بكتابة روايات تتناول جوانب عن الحياة على مر العصور في جُدَّة منها رباط الولايا للأستاذة هند باغفار ولها أيضاً مدينة اليسر، وسور جدة للأستاذ سعيد الوهابي، والبازان وسيل البغدادية للأستاذ يحيى باجنيد، وفتنة جدة للأستاذ مقبول موسى العلوي، والتجديف في عيون حالمة للأستاذة زهرة سعد المعبي، وحمار النورة للأستاذ عبدالوهاب أبو زنادة، ومقام حجاز للمرحوم الكاتب محمد صادق دياب. كما الف شاعر جُدَّة الدكتور عبد الاله جدع وغيره من الشعراء الذين تغنوا بهذه المدينة العريقة في اشعارهم ولا ننسى هنا الشاعرين الكبيرين ابني جُدَّة البرره حمزة شحاته وأحمد قنديل –رحمهما الله – والشاعر عبدالعزيز النجيمي وغيرهم. وبالنظر إلى عناوين هذه المؤلفات عن جُدَّة نجد أنها تناولت تاريخ وحاضر المدينة من زوايا مختلفة، لذا فلا يمكن القول أن هذه الكتب تعتبرا تكراراً لبعضها البعض أو أن جُدَّة حظيت بأكثر من نصيبها من الكتب بل نظراً لأهمية جُدَّة وكونها فرضة مكةالمكرمة والميناء الرئيس لوطننا الغالي، المملكة العربية السعودية فإن على الكتاب والمؤرخين السعوديين عامة وأبناء وبنات مدينة جُدَّة خاصة واجباً في متابعة تناول ما يستجد من أحداث تاريخية واجتماعية وغير ذلك في مدينتهم وتناولها في كتاباتهم.. ولا يعد ذلك مبالغة في حبهم لوطنهم أو مدينتهم بل إن إهمال ذلك يعد تقصيراً منهم. ويختتم الباحث في تاريخ جدة الأستاذ عبدالعزيز عمر أبوزيد محورنا مطالباً المؤسسات الثقافية والكليات المتخصصة سد النقص المفترض من المواد البحثية والعلمية وقال أيضاً: بداية يجب القول بمباشرة صريحة أن ما كتب عن مدينة جدة من مؤلفات ودراسات وأبحاث وتدوينات لا يتجاوز قمة جبل من الجليد. وهو ليس كلاماً نردده على سبيل الترويج الاستهلاكي الإعلامي كلما تحدثنا عن جوانب من تاريخ المدينة كخزان كبير للأحداث والوفير بملامح ثرية من الموروث الثقافي والإنساني الأصيل.. إنما علينا تغطية ذلك بوفرة ما نتركه من منتجات فكرية وأبحاث تاريخية وموضوعية.. فالمدن التي تشتم رائحة التاريخ القديم في أزقتها وممراتها وبين حواريها العتيقة لن تكون على هامش اهتمام البحاثة والمؤرخين وكذلك هي جدة التاريخية. وعند الحديث عن المؤلفات التي تعتني بالتاريخ السياسي والاجتماعي والإنساني فإني في غير حاجة إلى تأكيد حقيقة لا يختلف عليها اثنان أن الساحة الثقافية والمعرفية كانت ولا زالت متعطشة لإنتاج فكري يسد النقص الكبير في هذا الجانب ومن المؤسف القول أن دوائر المعارف والمراكز العلمية والبحثية في جامعات أجنبية قد تناولت بالبحث والدراسة تاريخ المدينة السياسي - ربما - بما يفوق اجتهادنا لتدوينه ورصده كما أن كثيراً منها لم يحظ بالنقل والترجمة، وذلك لما كان للمدينة من أهمية تجارية ودينية وكذلك لمينائها التجاري من نفوذ استراتيجي شكّل بعظم تأثيره مطمعاً للغربين.. كما أن مدونات الرحالة ومؤلفات المستشرقين قد أفصحت لنا بما لا يمكن إخفاؤه أن جهودهم في الكتابة والرصد والتدوين عن تاريخ وتراث المنطقة يعد من المصادر الرئيسية التي لا يمكن لباحث تجاهلها في مقابل أن ما يجب أن يكون من أبناء المدينة كان عزيزاً وشحيحاً. وهنا يستوجب الأمر طرح عدداً من الأسئلة الشائكة عن دور المؤسسات الثقافية التي تعنى بالإنتاج الفكري والثقافي وكذلك دور المؤسسات العلمية والكليات الجامعية المتخصصة التي ظلت لسنوات تخرج الدفعات وتنتج الرسائل والأطروحات والأبحاث العلمية.. وهل ما إذا كان نتاجها موجهاً لسد الفجوة والنقص المفترض من المواد البحثية والعلمية وهل كانت معنية بمثل تلك المهام في إطار ما تتبناه من فروع علمية ومناهج بحث متخصصة. كما أن ذلك يقودنا إلى أن ندير وجهة طرح التساؤل بصيغة مختلفة: هل ما يتم طرحه من مؤلفات ومنتجات فكرية تعتني بتاريخنا وموروثنا الإنساني كان يخضع لإطار منظم تحت مظلة عمل مؤسسي مدعوم وتتاح له الامكانات والمتطلبات أم أنها من محض اجتهادات مؤلفين ومبدعين وبحاثة شقوا طريقهم في هذا المضمار استجابة لحاجة الشارع الملحة ولسد الفراغ الكبير في المكتبة العربية من مفردات هامة تتناول جوانب من التاريخ الفكري للمنطقة. ثم يؤكد أبو زيد طبيعة الكتب المؤلفة عن تاريخ جدة ليقول: إن طبيعة الانتاج الفكري الذي تناول مدينة مثل جدة لم يحظ بكم من الدراسات الأبحاث التي تستحق من تغطية جميع مجالاته المختلفة سواء من حيث طبيعة التسلسل الزمني للأحداث أو من حيث تغطية جوانب المخزون الفكري العميق بثرائه. ولعلي أجد أن القاسم المشترك لكثير من التدوينات يطغى عليها التغطية الشمولية لتاريخ المدينة. وقد انساق العديد من الكتاب في التدوين لما انتهجه المؤرخ عبدالقدوس الأنصاري في مؤلفه الموسوعي تاريخ مدينة جدة باتباع ذات الطريقة الشمولية التي يطغى عليها الطابع الكلاسيكي في طرح المادة العلمية. وما نحتاجه اليوم من عمق موضوعي يتطلب إنتاج مؤلفات لمفردات يتم تناولها بتفصيل متعمق وهو ما يقتضي بذلاً وجهداً من البحث الاستقصائي لتفاصيل موضوعية جديدة وعدم الركون إلى التبويب البنائي والشكلي واعادة إنتاجها بقوالب جديدة، ومثل هذه المنتجات المتعمقة هي التي تقدم القيمة المضافة للباحث والمهتم سواءً في الطرح والمضمون وهي ما علينا القيام به والبذل من أجله محبةً للمدينة وسعياً لخدمة تاريخها وموروثها الإنساني، وهو ما يجعلنا في سباق مع الزمن لإنتاج مؤلفات عن مدينة جدة وأن لا نلتفت إلى غير سبيل البحث والاجتهاد فيه والانتاج الدؤوب لخدمة موروثنا الجميل وتاريخينا الاجتماعي الأصيل. د. عبدالإله باناجه د. عبدالرحمن سعد العرابي د. عدنان اليافي أ. عبدالعزيز عمر أبو زيد أ. عبدالقدوس الأنصاري