التقنية التي غزت كل جوانب الحياة في زمننا الحاضر والتي يسَّرت لنا العيش وذللت الكثير من الصعوبات التي كابدها الأجداد على مدى آلاف السنين باتت تهدد الأسرة الحديثة! فمن الشائع في أيامنا أن يجتمع أفراد الأسرة في مكان واحد دون أن يتبادلوا الحديث، لأن كل واحدٍ منهم مشغول في عالمه الخاص الذي يطل عليه من جهاز الجوال أو الآيباد أو اللابتوب أو غيرها من المبتكرات الحديثة التي صنعت قنوات للتواصل والمراسلة والمتابعة بين الناس فشبكت البشر ببعضهم البعض في أماكن متباعدة وفرَّقت بينهم في المكان الواحد الذي طالما كان النواة والأصل والحضن الذي سمت فيه أرقى المشاعر وأقواها بين البشر: العائلة الواحدة. لقد صنعت منتجات التقنية الحديثة عزلة بين أفراد العائلة، فهم موجودون جسدياً في مكان واحد هو المنزل الذي يضمهم، لكنهم متباعدون في فكرهم ومشاعرهم وفي تواصلهم وعلاقاتهم. البلدان التي سبقتنا في استخدام التقنية الحديثة تكتوي الآن بنار هذه التقنية وتعاني من سلبياتها الاجتماعية، وقد ذكرت إحدى الدراسات أن أربعين بالمائة من حالات الطلاق في إيطاليا حدثت بسبب مواقع التواصل الاجتماعي التي يرتادها الأزواج والزوجات عبر هواتفهم الذكية وما ينشأ خلالها من علاقات أدت إلى تصدع الحياة الزوجية وفشلها وانتهائها إلى الطلاق. وهناك إحصائيات كثيرة مخيفة عن جوانب أخرى من الحياة الاجتماعية في بعض البلدان الأخرى التي اجتاحتها التقنية الحديثة، وحوَّلت العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة إلى علاقات باردة وإلى شعور بالغربة والعزلة. هل يعني هذا أنّ التقنية الحديثة سيئة!؟ قطعاً لا! فمثلما أن التقنية أفرزت هذه السلبيات الاجتماعية نجد أنها قد حققت لنا إيجابيات ومنافع لا تُعد ولا تُحصى. لكن التحدي الذي يواجه الإنسان في زمننا الحاضر، ويواجه الأسرة الحديثة على وجه التحديد، هو كيف يمكن تعظيم الإيجابيات وتقليل السلبيات التي غزتنا مع التنمية. ولعل المجتمعات التي دخلت متأخرة نسبياً إلى عالم التقنية، ومنها مجتمعنا، تملك ميزة الاستفادة من تجارب المجتمعات التي سبقتنا في التعامل مع التقنية. فنحن لا نريد أن ننتهي إلى ما انتهت إليه إيطاليا ودفعت ثمنه غالياً أو ما حصل في بلدان أخرى مثل أمريكا وبريطانيا واليابان وغيرها. ما حدث ويحدث في تلك المجتمعات هو جرس إنذار لنا، وقد بدأت بوادر الخطر تلوح في مجتمعنا، ولابد من مواجهة ذلك من خلال الدراسات التي تعدها مراكز البحوث في جامعاتنا وكذلك الأجهزة الحكومية ذات العلاقة مثل وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة التخطيط وكذلك منظمات المجتمع المدني.