«1» وريقات العمر تعوَّد كل صباح أن يتناول بأنامله ورقة التقويم، ويقطعها كنهاية لليوم الذي مضى، ناسياً أو متناسياً أنه بانتزاعه لتلك الوريقة يطوي يوماً وصفحة من صفحات حياته، بخيرها وشرها. ففي أحد الأيام، وبينما كان يهم بانتزاع إحدى الوريقات كعادته، توقف قليلاً، وقال وكأنه يحدِّث أحداً ما: لو توقفت عن قطع تلك الوريقات هل سيتوقف العمر، وسيظل ذلك اليوم كما هو؟ وهل نزعي لتلك الوريقات من قبيل أنني أعجل بأجلي ونهاية حياتي؟ ترى.. هل عندما أهم أنتزعها واحدة تلو الأخرى حاسبت نفسي؟.. ماذا فعلت في ذلك اليوم من أعمال خير وشر؟ وكيف أكفِّر عن الأخطاء وأفعال الشر التي ارتكبتها ضد الآخرين؟! وبعد استعادته لوعيه من ذلك التفكير العميق قرر أن لا يقطع وريقة اليوم الذي أفل إلا بعد أن يراجع نفسه، ويعرف هل أساء لأحد، ثم يقوم بالاعتذار منه.. لكي يستقبل اليوم الذي يليه وهو راضٍ عن نفسه، متسامحاً ممن يتصور أنه أخطاً بحقهم، حتى وإن كانوا أهل بيته، حرصاً منه. فكان كلما قطع الوريقة وفعل تلك الأفعال ازدادت سعادته, وأصبح غير خائف من دنو الأجل؛ لأنه بتلك الأفعال أرضى الله، ثم تسامح من الآخرين.. وإن قرب الأجل في أي لحظة فإنه سيكون مرتاح الضمير، فلا يدري أيعيش لقطع ورقة اليوم الذي مضى أم يقطعها غيره؟! لقد تعلم درساً من وريقات التقويم التي هي فعلاً وريقات عمر تشبه حياتنا.. فكلما أرضى الإنسان فيها ربه بأفعال طيبة، وابتعد عن الأفعال السيئة التي نهى الله عنها.. كافاً عافاً عن الناس، فإنه ساعتها سيقف بين يدي الله سبحانه وتعالى إذا وفاته منيته متيقناً بأنه سيشمله برحمته.. فكلما هم بقطع الوريقة وشاهد التقويم قال «اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا، واشملنا برحمتك». «2» ما أحلى الحرية شاءت أرادة الله أن يدخل المستشفى لإجراء عملية بسيطة. كان يعتقد أن الأمر لا يتعدى إجراء العملية، ومن ثم الخروج. لم يكن يتوقع ذلك الروتين والتغيير الذي أربك كل خطط وبرامج يومه التي اعتادها. حاول أن يتناسى أنه في المستشفى؛ لعل الأيام تمر سريعاً، لكن ذلك لم يحدث، فالروتين الذي واجهه وعايشه قبل العملية شيء، والروتين الذي حدث بعد العملية شيء آخر.. فكان هذا الروتين أقسى وأصعب وأكثر مللاً لدرجة أنه فكر في الفرار من المستشفى. لقد بات في جوف هذا المستشفى.. كل شيء بمواعيد محددة.. الكل تناول الدواء وقت الراحة، حتى النزول من السرير أصبح بموافقة الأطباء، وبمواعيد محددة في اليوم.. والروتين الملل جعلاه أيضاً ينسى الآلام التي سببتها العملية ومضاعفاتها وآلامها. عادت به الذاكرة إلى الوراء، وتذكر قيمة الحرية التي لا تقدر بثمن. تأمل الأيام السابقة من سني عمره، التي كان هو المتحكم في مصيره فيها، حينما كان يخرج ويعود وينام ويصحو.. كل هذا بدون قيود، وبدون تدخل من أحد. كما أدرك نعمة الصحة التي أنعم الله بها علينا معشر البشر، ولا ندرك قيمتها الحقيقية إلا عند حدوث أي أمر كالمرض. هنا عزم على أن يواظب على الأوامر والواجبات كافة التي أمره الله بها، ويبتعد عن كل ما يغضب الله؛ وحدَّث نفسه قائلا: إذا كانت هذه الوعكة البسيطة غيرت كل أمور حياتي فكيف لو فاجأني الموت وأنا أعيش هذه الغفلة؟!!.. فبعد هذه التجربة أصبح الرجل شخصاً آخر في كل سلوكياته مردداً «ما أحلى الحرية إذا لم تغضب الله وتخالف ما أمرنا به».