الجزيرة - السعودية كان في طريقة جلوسه حتى مع زواره وضيوفه في مجلسه الأسبوعي تشعرك بالبساطة المتناهية ورغبة في القرب من زواره وأحبابه ومريديه. متوسطاً بين الجميع يلتقط وينصت إلى كل واحد منهم، يستقبلهم بكتابه الأهم «وسم على أديم الزمن» والذي يصدر متتابعاً في أجزاء قاربت سبعاً وثلاثين. تحكي قصة حياته وتفاصيل عمره وحكايا الزمن الذي عاش في كنفه والعمل الذي تنقل فيه بين درجاته. في طريقة سردية جميلة وسيرة ذاتية متميزة. يغرق في ذكر تفاصيل يومياته ويسترجع دقائق حياته، يتحدث بعفوية مقبولة، يعترف بالفشل تارة ويورد المعاناة أخرى. لم ينزع إلى تمجيد ذاته أو الاحتفاء بشخصه لكن رائحة الصدق والأمانة تستنشقها في كل سطر وورقة من وريقات كتابه. لم يكن فضائحياً بل كان أميناً على الحدث والقصة ينقيها من تلك الحساسية المقيتة اليوم التي حرمتنا من تفاصيل حياة الكبار وأحداثهم. لم يدع اسم امرأة أو رجل من أقربائه أو أقرانه أو جيرانه إلا وأورده في إبراز حقيقي لحياة المجتمع آنذاك. كلما عنَّت له حادثة أو قصة لم يتردد في إيرادها بسرد مناسب بعيد عن التجريح والغمز واللمز. كل من يكتبون بعضاً من سيرهم تراهم يبالغون في مدح الذات وتمجيدها لكنه أي «الوزراء الخويطر» رحمه الله كان يحكي كل شيء بكل ما تعنيه هذه الكلمة. خصوصاً في جوانب الحياة العامة والخاصة التي لا تؤثر سلباً على من يقرأها أو تعنيه حادثتها. أما يومياته العملية التي بدأها منذ أن كان شاباً فهي قصة أخرى. ولا أعلم أحداً استطاع المواظبة والالتزام التام بكتابة اليوميات على مدى أكثر من ثمانين عاماً سوى «الوزراء الخويطر» و»الرحالة العبودي» لم يكلا ولم يملا ولم يتوقفا عن هذه المهمة التي قطعاها على أنفسهما مهما تزاحمت المشاغل وأنهكتهم الأعمال. لقد كان قدر «الوزراء الخويطر» أن يكتشفه الملك فيصل مبكراً بأن هذا رجل دولة فذ من المهم أن تسند إليه المسؤوليات ويحظى بالثقة. وبالفعل صدق حدس الفيصل وكانت إرادة الله أن يكون «الخويطر» هو الوزير الذي لا يختلف على كفاءته وأمانته ونزاهته وقدراته أحد، فكانت الوزارات تتجاذبه من كل اتجاه. وحينما ردد البعض بأن سير العدل والأمانة ومثاليات النزاهة قد دفنت وولت جاء الخويطر ليبعثها من جديد ويقول «في بني قومي خير وصلاح». فسطَّر القصص الخالدات والوقائع الباقيات في عدله وإنصافه مع نفسه أولاً ثم مع أهله وذويه وأقاربه والمواطنين عموماً. وكل شيء فيه مظنة لشيء من ذلك ابتعد عنه حتى ولو غضب من غضب. لقد سرد في «وسم على أديم الزمن» كل دقيقة يتحرك فيها لخاصة نفسه أو من أجل الوطن. فكانت تلكم الأجزاء الكبرى «خزانة وطنية» تحمل معها عمله مع الملوك وأولياء العهد منذ خمسين عاماً. كان أمين الملوك بحق مؤتمناً على رسائلهم وأسرارهم. يقدم المشورة والرأي بصدق وأمانة. أما الخويطر «المؤرخ» فهو تخصصه العلمي الذي أتقنه دراسة وإجادة هواية وكتابة، ومن قرأ «إطلالة على التراث» و»الوسم» أو جلس معه في مجلس يدرك الذائقة التاريخية والقدرة الاستيعابية على ذكر تفاصيل الأحداث وأخبارها بكل دقة وحبك أدبي جميل. زرته مرة مع شيخنا العلامة محمد العبودي فكانت لحظة رائعة تجمع الكبار، يتناولان الحديث التاريخي بنقاش علمي مثير لا تملك حينها إلا وتنصت وتستمتع وتندهش. وعندما همَّ بالمغادرة رفض «الوزراء الخويطر» رغم أن الزيارة كانت قبل أشهر وكانت صحته ليست جيدة والمشي يثقله فأصر تماماً أن يمشي مع شيخنا العبودي ويودعه عند باب سيارته. كانا يتبادلان النبل والمحبة والتقدير في مشهد يصلح أن يدرس ويعطى للأجيال اليوم. وهكذا رحل الخويطر ليس رجل الدولة وأمينها فحسب بل المثقف المؤرخ وقبله وبعده ركن من أركان النزاهة والعفة والأمانة. تستلهم منه الأجيال الدرس وتستفيد منه طريقة التعامل مع المسؤوليات. أما الخويطر الإنسان فاقرؤوا «الوسم» لتجدوا حديثه الوفي عن أساتذته وأقرانه وأصدقائه. بل عن سائقه الأول والثاني وأحاديثه معهما. إنها حياة رجل وطراز نادر في زماننا المؤلم. [email protected]