لطالما رغب البشر في الطيران. إنها رغبة مشتركة بين كل البشر. لعله إحساس الحرية، أن تنطلق بدون قيود وتخترق الهواء بسرعة عالية تاركاً كل ثِقَلٍ جسديٍّ أو نفسيٍّ وراءك ومنغمساً في عالمٍ لا قيود له. تطير فتشق السماء وترافق الطيور وتتأمّل المساحات الخضراء أسفلك وجاراتها من البحار والأنهار، بينما يرتفع شذا الماء إليك ليملأ رئتيك وينعش روحك. الطيران حلم لنا منذ قديم الزمان، وممن تبحّر في العلم وبرع فيه عباس بن فرناس، وفي الأندلس في القرن الثالث الهجري حاول الطيران بأن غطى جسمه بالريش وألبس ذراعيه جناحين وقفز من مكانٍ مرتفع وطار قليلاً، لكنه أغفل الذيل فسقط وأوجعه ظهره – لكنه لم يمُت كما شاع – وبعد فترة من الراحة تشافى وعاد لصحته. واللطيف أنّ افتتان البشر بالطيران من شدته جعلنا ننسى إنجازات عباس بن فرناس الأخرى، فليس الطيران هو الشيء الوحيد الذي اشتُهر به وعُرِف عنه، بل هو عالمٌ عظيم وله اختراعات مدهشة، مثل الزجاج الشفّاف وقلم الحبر والساعة المائية وعدسات تصحيح البصر، ووَجَد طُرقاً لرصْد الأجرام السماوية، وغير ذلك من العلوم التي تشرَّبها وأبدع فيها تحت إمرة الخلفاء الأمويين في الأندلس، غير أنّ هذا كله مجهول عند عامة الناس ولا نعرف عن عباس إلاّ أنه رجل حاول الطيران ذات يوم! تجربة عباس تبعتها أُخَرُ من أناسٍ آخرين، فبعد تلك التجربة بمائتي سنة حاول رجل انغليزي اسمه إلمر الطيران، فلبس جناحين وقفز من برج الكنيسة لكن بما أنه لم يعتمد على العِلم مثل عباس، فلم يطر كما طار صاحبنا الأندلسي، وإنما وقع على الأرض وشُلَّت قدماه، وحتى هو أغفل أن يضع ذيلاً لكي يتوازن ويتوجه يمنة ويسرة، ولو أنه وضع ذلك الذيل لما نجح في الطيران لكن على الأقل لربما استطاع أن يهبط هبوطاً أخف ويحفظ قدميه. ليت عباس حي اليوم ليحاول الطيران في تايتان كوكب زحل! زحل هو ذلك الكوكب الفريد في مجموعتنا الشمسية الذي تحيط به حلقة كبيرة من قطع الثلج يداخلها بعض الغبار والحصى، ولهذا الكوكب أقمار كثيرة أكبرها حجماً هو تايتان، والقمر تايتان ثاني أكبر قمر في مجموعتنا الشمسية -يسبقه غانيميد قمر المشتري -، وتايتان له غلاف جوي عجيب، فالجو شديد الكثافة والجاذبية ضعيفة، وهذا يتيح فرصاً لمن يريد أن يستغلها، فلو أنّ إنساناً ذهب هناك فيستطيع أن يلبس جناحين ويحركهما قليلاً وهذا يكفي ليطير هذا الشخص! لا يحتاج عباس ولا إلمر أن يسافرا لتايتان فيمكنهما الطيران هنا في كوكبنا، باستخدام اختراعات أتاحت هذا مثل الطيران المظلي والطيران الشراعي، والتي أعطتنا لمحة – و لو بسيطة – من متعة الطيران، ذلك الحُلم الذي طاردناه آلاف السنوات ووصلنا له أخيراً ... ولو قليلاً!