لسادس مرة على التوالي ينجح برنامج "خواطر" في أسرنا بمواضيعه الرائدة وحلقاته المميزة وأسلوبه الجميل.. وزاده جمالا هذا العام محاولة الأستاذ أحمد الشقيري رفع معنوياتنا من خلال المقارنة بين حالنا البائسة هذه الأيام مع واقعنا المفترض قبل ألف عام! ولكن عتبي الوحيد الذي لا ينقص من قدر البرنامج أو أسبقية الشقيري هو تجاهل حقيقة أن العبقريات الفردية والانجازات الشخصية واقع تاريخي يمكن العثور عليه في أي حضارة أخرى قديمة.. بمعنى؛ لو بحثت في الحضارات الهندية والصينية والمالاوية بل وحتى الأفريقية لاكتشفت عبقريات فردية ابتكرت، واخترعت، واكتشفت، وكررت إبداعات الأمم الأخرى.. خذ الطيران كنموذج لتكتشف أن محاولة ابن فرناس تكررت في كافة الثقافات والحضارات القديمة وكل ما تحتاجه فقط هو تغيير اسم المغامر وموقع الحدث لتكتشف تشابه المحاولات وتماثل الأحداث.. وكنت قد كتبت بالفعل مقالا بعنوان رجال لبسوا الريش (نشر بالرياض في12 فبراير2007) قلت فيه إن حلم الطيران ومراقبة الطيور شجع الانسان على محاولة الطيران منذ القدم.. وفي هذا المقال بالذات تحدثت عن المخترع التركي هيزرفين أحمد الذي قفز من برج جالاتا وطار في الهواء لمسافة طويلة أوصلته الى حي يوزكدر قرب مضيق البسفور.. أما في اليونان فصنع "ددالوس" وولده "أكاروس" جناحين من الريش والشمع ولكن أكاروس طار حتى موعد الظهيرة فذاب الشمع وتفكك الريش وغرق في البحر.. وفي الصين صنع الحكيم الصيني (هاي وان) أجنحة كثيرة وفشل في تسع محاولات حتى مات في العاشرة.. وفي اسكتلندا هناك تيم هايس الذي كان مغرما بالطيور وطريقة تحليقها وصنع جناحين قفز بهما من قلعة أدنبرة فمات من ساعته.. وحتى في تاريخنا الإسلامي هناك محاولة أخرى بجانب محاولة ابن فرناس قام بها عالم اللغة العباس الجوهري (مؤلف ! كتاب الصحاح في اللغة) الذي صنع جناحين من خشب وريش وحاول الطيران بهما (عام 393ه) من فوق مسجد في نيسابور فسقط ومات أمام قدميْ الوالي! ... ومثل هذه المحاولات المشتركة تسري على كافة الاختراعات والابتكارات وتكررت لعدة مرات في تاريخ البشرية (وهو أمر طبيعي ومتوقع كونها تتعلق في النهاية بحلم إنساني مشترك).. وهكذا يمكن لأي مؤرخ ينحاز لثقافته العثورعلى عبقريات فردية محلية كررت اختراع البندول والمضخة و"القمرة" والمدفع والمطبعة ... دون أن تعلم بالضرورة بظهور هذا الاكتشاف في حضارات أخرى أقدم منها !! ... القضية في نظري ليست في من سبق الآخر ولا أي حضارة استفادت من الأخرى بل في طبيعة العوائق الثقافية الاجتماعية التي منعت الابتكارات الفردية (في الحضارات العربية والهندية والصينية... بل والأفريقية) من التحول لثورة صناعية!؟ فمشكلتنا كعرب مثلا لم تكن في وجود العبقريات الفردية بل في فشلنا في تحويل الإبداعات الشخصية إلى صناعات شعبية ومنتجات تجارية يمكن تصديرها للخارج.. وفي المقابل، نجحت أوربا منذ القرن التاسع في تحويل الابتكارات الفردية إلى انجازات صناعية ومنتجات استهلاكية (رغم فشلها قبل ذلك في ابتكار الثورة الصناعية أثناء الحضارتين الإغريقية والرومانية). ... أيها السادة: لا أشك ولا أسمح لأحد أن يشكك في تفوق علمائنا العرب منذ ألف عام؛ ولكن السؤال الذي يصيبني بالغصة هو: لماذا فشلنا في اكتشاف (الثورة الصناعية) وتحويل "القمرة" الى كاميرا رقمية وطائرة ابن فرناس لبوينج وإيرباص!؟