يؤكد فضيلة الشيخ بدر بن سليمان العامر الداعية في وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد أن السلفية منهج علمي لمعرفة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من العلم والعمل، فيشمل هذا قضايا «العقائد» و»السلوك» و»العبادة» و»الأخلاق» التي بينها القرآن بقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} (100) سورة التوبة، وقوله عليه السلام في الحديث عن الفرقة الناجية: (ما كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي)، ويشير العامر إلى أن «السلفية» ليست ضد العقل، وأن من يمارس التكفير من بعض الشباب والدعاة لا يحسب على «السلفية» حتى لو تسمى بها. جاء ذلك في حوار ل «الجزيرة» مع الشيخ بدر العامر حول السلفية تناول عدة نقاط مهمة، وفيما يلي نص الحوار: * كيف تشكلت السلفية عبر التاريخ الإسلامي؟ - بدأ الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ببث ميراث النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، وانتشروا في الأرض الإسلامية التي فتحها المسلمون في عهدهم، وكان لهم تلاميذ يتلقون عنهم العلم والعمل والهدي، فكان لابن عمرو وابن عمر وابن عباس وابن مسعود وأنس بن مالك وغيرهم تلاميذ يتلقون عنهم ما تعلموه وما سمعوه وما فقهوه من أحكام الشريعة من النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ثم تلا ذلك حركة «تدوين» للسنة النبوية ومسموعات الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة بعض أحداث الفتنة التي بدأ الناس ينظرون في عدالة الرواة ومعرفة النقلة للسنة والآثار، ثم تلا ذلك حركة علمية في تأصيل أصول «النظر والاستدلال الشرعي» ابتداء من كتاب الرسالة للإمام الشافعي - رحمه الله - الذي أراد كتابة أصول لضبط فهم الشريعة وبيان أصول الاستدلال ومرجعية العالم الذي يريد استنباط الأحكام الشرعية، ثم تبع ذلك تراكم علمي ومعرفي بنى اللاحق على كلام السابق في مسائل الأصول ومدونات الفقه وخروج مذاهب العلماء ومسالكهم في فهم نصوص الكتاب والسنة كطريقة أحمد وأبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم من أئمة العلم والدين. ثم بدأ العلماء في بيان أصول «الاعتقاد» التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم في المسائل العلمية، فألفوا في قضايا الإيمان والغيب والقدر والأسماء والصفات والحكمة والتعليل وغيرها من المباحث العقدية التي سماها أهل السنة ب(الفقه الأكبر). لقد صادفت بداية الحركة العلمية من «السلف» خروج أقوام خالفوا طريقة الصحابة في فهم الكتاب والسنة في العلم والعمل، وشهد على بعض ذلك الصحابة أنفسهم، فظهرت «الخوارج» و»القدرية» و»غلاة الشيعة»، و»المرجئة»، وبعد ذلك ظهرت فرق «الكلام» و»الفلاسفة» الذين تركوا طريقة السلف في فهم الكتاب والسنة واعتمدوا على الأصول المنطقية المتأثرة بفكر الفلاسفة اليونان وغيرهم، مما أدى إلى ظهور جهود علماء السنة في التفريق بين طريقة «السلف» في العلم والعمل، وبين ما أحدث بعد ذلك من طرائق كان لها دور في التأثير على المسلمين، وظهور «المبتدعة» الذين خرجوا عن طريقة الصحابة وتابعيهم في فهم الكتاب والسنة. والفرق بين طريقة «السلف» وطريقة «الخلف» أن السلف كانوا يضعون أصولاً في فهم الكتاب والسنة نابعة من منهج النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، فالكتاب والسنة والقياس والإجماع وأقوال الصحابة واللغة العربية مرجعيات في التلقي والفهم للكتاب والسنة. بينما انحرفت بعض الفرق في فهم الكتاب والسنة، فمنهم من اختط طريقة خاصة في الفهم لا توافق رؤية ومنهج السلف كالخوارج، حيث أنكروا السنة وكفروا الصحابة فأصبحوا يفهمون القرآن من تلقاء أنفسهم بلا مرجعية علمية. ومنهم من عظم العقل وجعله في رتبة مقدمة على الشريعة كالفرق الكلامية والمعتزلة. ومنهم من اعتمد في فهم الكتاب والسنة على طريقة المناطقة التي قدموها على غيرها. فأصبح أهل السنة في طرف يسيرون على نهج السلف، وأصبح أهل البدع في طرف آخر يخالفون ما كان عليه السلف. * على جوابكم هذا، فالسلفية منهج وليست فرقة؟ - نعم.. السلفية هي منهج علمي للوصول إلى فهم الكتاب والسنة، ولذلك يقترب الناس من السلف وطريقتهم بقدر اقترابهم من منهجهم في العلم والعمل، ويبتعدون عنها بقدر بعدهم عن هذا المنهج، وعليه فكل المذاهب الفقهية شافعيها وحنفيها ومالكيها وحنبليها هم سلفيون يسيرون على منهج أهل السنة، والأمة في عمومها تسير على طريقة السلف. ومن شذ من علماء الأمة فخالف منهج السلف فيعامل بناء على قواعد الشرع من الجدل والحوار والمناظرة، ويبين خطؤه في مخالفته لقواعد السلف ومنهجهم بالرفق واللين والإحسان. وهناك كلمة جميلة للشيخ العلامة ابن عثيمين - رحمه الله - في هذا المعنى حيث قال: (الواجب أن تكون الأمة الإسلامية مذهبها مذهب السلف الصالح، لا التحزب إلى من يسمى (السلفيون). فهو يشير -رحمه الله- إلى أن طريقة السلف ليست حكراً على أناس دون أناس بمجرد الدعوى، بل هو «مذهب» له أصوله التي يجب على الأمة أن تسير عليه حتى توافق «المتابعة» لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. * نسمع كثيراً مقولات من البعض بأن السلفية ضد العناية بالعقل بل والحط منه، فهل هذا صحيح؟ - لم تكن «السلفية» في يوم من الأيام ضد «العقل» أو أنها منزلة لقيمته، بل السلفية ترى أن العقل شرط ضروري للتكليف، وشرط ضروري لفهم الكتاب والسنة، وإنما تقف السلفية موقفاً من «تقديس العقل» وتأليهه وتقديمه على محكمات الكتاب والسنة، فعلماء الأصول والفقهاء من أئمة الإسلام والسنة عبر التاريخ يستخدمون العقل في الاستبناط والتقعيد والتأصيل، بل أقاموا مناهج كبيرة على استخدام العقل ومسلماته وطرائقه في تنقية السنة مما علق بها، فعلم الجرح والتعديل، والحكم على الرجال، ودراسة الأسانيد، ومباحث العلل في الحديث والأصول كلها قامت بناء على «إعمال العقل» في تقعيد العلم. كذلك استخدم علماء أهل السنة «العقل» في فهم الأحاديث، ونقد متون السنة، وتمييز صحيحها من ضعيفها، ومناظرة الفرق المخالفة، ولهم في ذلك تراث عظيم وكبير، وهذه الدعوى إنما يحاول المناوئون للسلفية وعلمائها تشويه صورتهم بدعوى «الوقوف أمام العقل»، وهم بذلك يريدون تقديم العقل على النقل، وتأخير رتبة النقل وجعله تابعاً للعقل، وهذه دعوى ناقشها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتاب «درء تعارض العقل والنقل» أو «موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول»، وبين أن الدليل «الشرعي» هو مكون من «العقل والنقل»، وأن أهل السنة كما أنهم يقبلون «النقل الصحيح»، فهم يقبلون كذلك «العقل الصحيح»، وكما أنهم يردون «النقل الضعيف»، فهم يردون كذلك «العقل الضعيف»، فالله تعالى هو الذي أنزل الشريعة وخلق العقل، فلا يمكن أن يتعارض ما أنزله الله مع ما خلقه. * يثير البعض دعاوى حول «السلفية» وأن أتباعها يسارعون في تكفير الناس وتبديعهم وإخراجهم من الملة وسبهم والطعن بهم، ماذا تقول عن ذلك؟ - أهل السنة السائرون على منهج السلف وطريقتهم هم أرحم الناس بالخلق، وهم أبعد الناس على التكفير والتبديع، بل هم يتعاملون مع الناس ب (العلم) و(العدل) و(الرحمة)، وكان من شعار أهل السنة أنهم (لا يكفرون من كفرهم)، بل كانت الفرق هي التي تكفر أهل السنة، وأهل السنة يعذرونهم ولا يسارعون في تكفيرهم، وقد كان لهم موقف لا مهادنة فيه من الخوارج الذين استباحوا تكفير الناس وسفك دمائهم، بل جعلوهم أهل ضلال لأجل استهانتهم بهذا الأمر العظيم. أما وجود من يمارس التكفير والتبديع من بعض الشباب أو الدعاة والاستهانة بهذا الأمر فلا يحسب على «السلفية» حتى لو تسمى بها، فإن مجرد التسمي لا يغني عن الحق شيئاً، والمعول عليه الحجة والبرهان والدليل لا مجرد الدعاوى، والنظر في سمت وسيرة علماء الأمة الراسخين الذين يعبرون عن حقيقة السلفية ومنهجها، وهؤلاء نجدهم ألطف الناس وأكثرهم حرصاً على جمع الكلمة وإعذار الخلق ورحمتهم كما كان أئمة الدين وعلماء الشريعة على مر العصور. * يتهم البعض السلفية بأنها دائماً ما تخدم الحكام وتبرر أخطاءهم وتقف أمام من يدعو للإصلاح، ما تقول في هذا؟ - السلفية منهج قائم على نصوص الكتاب والسنة، وكان لأهل السنة منهج تاريخي في الموقف من الحكام بيّنه علماء أهل السنة في كتبهم، فهم يرون أن الاجتماع خير من الفرقة، وأن السمع والطاعة للولاة برهم وفاجرهم واجب ما دام الناس آمنون على أنفسهم وأعراضهم ومجتمعون على كلمة سواء، ويرون أن منازعة الحكام ومقاتلتهم ونزع يد الطاعة مضر بالأمة، وسبب في سفك دمائها واختلال أمنها، وأن الصبر خير في كل الأحوال، وأن نصوص الكتاب والسنة تأمر الناس بالصبر حتى لو نقصت دنياهم، وهم كذلك يرون أن «النصيحة» واجبة للولاة، وأنه جزء من الجهاد الشرعي، وأنه لا يجوز إقرار الولاة على أخطائهم في المظالم ومخالفة الشريعة، ولكنهم في الوقت نفسه يختطون طريقة في معالجة الأخطاء بالنصيحة والتعاون والتذكير والقيام بذلك قدر المستطاع، بعيداً عن تهييج العامة، وإيغار صدور الناس ضد الولاة أو الثورة عليهم ما داموا مسلمين قائمين بأمر الله، وأنهم لا يجوز منازعتهم إلا في حال واحدة وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان)، فلا بد أن يقع الحاكم بالكفر البواح البين الذي لا يختلف عليه اثنان من المسلمين بأنه كفر، ويكون عند الناس القدرة للتغيير بلا مفاسد وخاصة إراقة الدماء، فإن بقي الحاكم مسلماً لم تجز منازعته، كما أنهم يقررون أنه لا يجوز طاعته فيما هو معصية لله أو ليس بمعروف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة بالمعروف)، وقوله: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وأما طاعته فيما عدا ذلك فهي واجبة لأن هذا يحقق المقصد الشرعي من اجتماع الكلمة وعدم التفرق. وأما دعوى أن علماء السنة والسلفية يبررون للحكام أخطاءهم، فالواقع والتاريخ يشهد بأن لهم موقفاً من النصيحة والإعذار، وأنهم لم يكونوا كذلك، ولكن بعض الجماعات السياسية تريد تشويه السلفية لأن عندهم موقفاً من الحكام ينطلق من «التكفير» تارة، ومن أجندات سياسية تارات أخرى، ويرون أن نهي الناس عن الخروج والفتن هو تبرير للأخطاء وهذا غير صحيح، ولو وقع من البعض مبالغة في الموقف من الحاكم، أو تبريراً لخطأ بين وقع فيه فليس هذا هو منهج السلف ولا تصرف علماء السلفية أبداً. * يتهم البعض السلفيين بأنهم لا يملكون مشروعاً حضارياً وليس في طرحهم أي جانب مدني، بل يقفون أمام كل قضية تنموية، فهل هذا صحيح؟ - قامت الحضارة الإسلامية التي هيمنت على الدنيا مئات السنين على أيدي الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وأصبحت دولة الإسلام لا تغيب عنها الشمس، وأصل علماء المسلمين من أهل السنة المدونات الفقهية الضخمة والتي تحتوي على مادة كبيرة وعظيمة من الفقه في المعاملات الذي يشمل حاجات الناس في تجارتهم وزراعتهم وعقودهم وتعاملاتهم، وعقدت الأبواب والفصول والكتب الكثيرة في دقائق المسائل المتعلقة بمدنية الناس ومعاشهم، بل إن العلماء نصوا على أنه لا توجد مسألة في القوانين الوضعية العالمية إلا ولها أصل في مدونات الفقه الإسلامي، ولو قارنا بين حجم أبواب العبادات أو المعاملات في كتب الفقه لوجدنا أن أبواب المعاملات أكثر بكثير، ذلك أن الإسلام الذي جاء من عند الله مستغرب لمسائل الزمان والمكان، وقد بنى أصولاً لضبط حركة الإنسان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. كما أن علماء السنة قد قرروا بأن كل قضية مدنية أو علمية دنيوية هي من فروض الكفايات، وأن الأمة تأثم إذا قصرت فيها، ولكنهم يفرقون بين مستويين: المستوى الأخلاقي أو الضوابط الشرعية للتعاملات، وهذا يبحثونه في كتب الفقه والعلم، والمستوى الثاني: المستوى الإجرائي الفني وهو موكول لأهل الخبرة والاختصاص، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، وعليه يكون الطرح النهضوي والمدني طرحاً تكاملياً، بحيث تبنى الحضارة على قيم أخلاقية لا وضعية شمولية تحيد الدين والأخلاق عن حركة الإنسان المدنية. ولو أردنا ضرب مثل واقعي عن نجاح السلفية في صياغة المشروع النهضوي سوف نضرب مثلاً بادياً للعيان بالدولة المباركة (المملكة العربية السعودية) التي قامت على أساس سلفي ديني منذ أن أنشأها في طورها الثالث الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رحمه الله، فأصبحت تعد من الدول النموذجية في القفزات الحضارية، فهي دولة نفطية واقتصادية بل من أعظم الدول في إنتاج البتروكيماويات، وفيها جامعات تخرج آلاف المتخصصين في المجالات كافة، وعندها خطط ووعي تنموي استطاعت من خلال سبعين سنة إقامة دولة حضارية ضاربة بذلك مثلاً في التحام الديني بالسياسي في إشادة الحضارة، ورادة على أولئك الذين يرون السلفية عائقاً في التقدم المادي والمدني. كما أنه لا يوجد أي عالم سلفي عبر التاريخ يحرم أي نوع من أنواع العلوم النافعة للبشرية، بل يجعلون طلبها جزءاً من المطلب الشرعي ومن «القوة» التي أمر الله تعالى بإعدادها، ولو قارنا ذلك بوضع أوروبا إبان حكم الكنيسة لوجدنا الفرق بين دين ومنهج يدعو للعلم والتعلم وإعمال العقل، وبين دين يتحكم به رجاله ليقيموا مشانق القتل والإعدام لكل من يبتكر ويخترع ويخرج عن إطار الكنيسة وتعاليمها.