من الحقائق المُقلقة التي قرأتها دراسة أُجرِيَت في التسعينات الميلادية وَجَدَت أن هناك رابطاً بين الانترنت وتدهور الصحة النفسية، وتحديداً فإن الذين يَكثُر استخدامهم للإنترنت يكونون أكثر عزلة اجتماعياً، وإذا زادت هذه العزلة ساءت الحالة النفسية للإنسان، فالإنسان كائن اجتماعي والعزلة المستمرة تُسمّم نفسيته، ولاحِظوا أيها الأكارم أن هذه الدراسة كانت في التسعينات أي قبل عصرنا هذا الذي صارت فيه الإنترنت في كل مكان ويستخدمها الجميع ويقضون عليها الساعات الطوال، فآنذاك كانت ضارة ويمكن أن تقود إلى الاكتئاب - وهو مرض نفسي خطير - فكيف بأضرارها اليوم مع هذا الانتشار والتغلغل؟ هناك مفارقة هنا وهي أن الكثير من الأنشطة التي يفعلها الناس على الانترنت هي في ذاتها من أنواع التواصل «الاجتماعي»، وقد وضعتُ كلمة الاجتماعي بين علامتي تنصيص لإبرازها لأن الكلمة ليست صحيحة تماماً، فرغم أن الناس يقضون الساعات المتتالية في غرف الدردشة وإرسال الإيميلات إلا أن هذه ليست اجتماعية حقيقية، وكيف تكون اجتماعياً وأنت وحدك في غرفة مغلقة أمام جهاز جامد لا روح فيه؟ ولكن هذا هو الوهم الذي يقع الكثير من الناس ضحية له وخاصة الشباب والمراهقين من الجيل الجديدة والذين انغمسوا تماماً في هذا العالم، وظنوا أن سويعات في المنتديات يمكن أن تُغني عن الخروج من البيت والاختلاط بالبشر الحقيقيين، وقد صنع الباحثون تجارب كثيرة أظهرت أن عزل الأطفال لا يضرهم نفسياً فقط بل يقتلهم إذا كان العزل شديداً ومستمراً. هذه الحقيقة لا تنطبق على الأطفال وحدهم بل على كل البشر، فرغم أن العزلة الاجتماعية قد لا تبدو ضارة بديهياً إلا أنها شديدة التأثير على النفس ولكن بالتدريج وببطء، وربما هذا سببُ عدم انتباه الناس لأضرار العزلة، وقد وجدت الدراسات أن من ينجو من النوبة القلبية تزيد احتمالات وفاته 3 مرات إذا انعزل بعد نوبته. دراسة أخرى وجدت أن مرضى سرطان الدم (لوكيميا) أطول عمراً إذا كان لديهم علاقات اجتماعية قوية، ودراسة وراء دراسة تؤكد هذا. العالم دين أورنيش درس العلاقة بين الانعزال والوفاة في كتابه «الحب والنجاة»، ووجد بعد دراسة عشرات البحوث والدراسات أن المنعزلين أكثر عرضة للموت المبكر وذلك بدرجة عالية جداً تبلغ 5-7 مرات أكثر من الذين لديهم علاقات قوية مع أزواج أو عائلات أو مجتمع. الغريب أنه رغم هذا فلا زال الطب الغربي رغم تقدمه يتردد عن حثرضى الجسد على زيادة اختلاطهم بالناس وتقوية أواصرهم الاجتماعية، فيَفصلون بين مشاكل الجسد ومشاكل النفس، بينما الحقيقة العلمية المجربة والمثبتة هي أن الاجتماعية دواء لا يقل تأثيره الإيجابي عن الحبوب والعمليات الجراحية. الكثير من الآباء والأمهات اليوم يستهينون بآثار الإنترنت على أبنائهم، ولا يمانعون أن يقضي الأبناء الساعات تلو الساعات أمام تلك الشاشات الجوفاء، ولكن أي قراءة لآثار هذه التقنية على نفسية الإنسان إذا أكثر منها واستعاض بها عن الحياة الاجتماعية الحقيقية ستُقلق المرء ويجدر بها أن تجعله يعيد حساباته ويناصح الأبناء أن لا يفرطوا في الجلوس المطول أمام الإنترنت.