من المؤلم حقا أن يجد الانسان نفسه في فترة من فترات حياته وحيدا لا يحيط به أصدقاء أو أقارب وقد تمتد هذه الفترة الى أن تنتهي مدته المقررة له في هذه الحياة فيموت وحيدا كما عاش وحيدا... إن شعور الوحدة لا يعني بالضرورة افتقار الفرد منا لأشخاص حوله بل قد تكون الوحدة هي العزلة الداخلية أو لنقل الغربة.. فالاغتراب ليس في المكان ولكنها النفس قد تعاني غربة وسط جموع من البشر.. وقد تعددت الدراسات العلمية حول أسباب الاغتراب النفسي أو الوحدة النفسية فقد عرفها عالم النفس بيرنز ( Burns , 1985 ):بأنها حالة من حالات تترتب على أفكار الفرد نفسه وتنشأ عنها أي أن الفرد يحتاج لشريك يحبه ويجعله يشعر بالبهجة والأمان والقدرة على الإنجاز. ولا أعتقد أن الأمر يتوقف عند عدم وجود شريك الحياة إذ أنني أجد أن شعور الغربة يأتي من أعماق النفس التي تعرضت لما يشبه الكسر والجرح فهي نفس تنزف ألما.. وروحا فاجأتها ظروف قاهرة في الحياة فقررت الانعزال والتقوقع على نفسها وقد تكون عبارة الانسحاب الاجتماعي هي الأنسب عندما نصف حال الشخص الوحيد فالمنعزل يعبر عن مشاعره السلبية اتجاه ذاته و الآخرين بالانسحاب ليجد نفسه في دوامة من العجز والصراع مع افكاره المتضاربة و مشاعره المحبطة و يتخذ من نفسه قوقعة حصينة منطوية على مشاعر من الحزن واليأس وعدم المبالاة لما يجري حوله ويغرق في تفكير مظلم و يشعر بالزمن كأنه متاهة لا تنتهي وهنا نجد أن الوحدة الأليمة قد انبثقت من الذات الآنسانية وأصبحت تنمو في كينونتها الداخلية وتمنع نفسها من التواصل مع من حولها وتنتهي لديها رغبة البقاء. يا غربة الروح في دنيا من الحَجَر ِ والثلج و القار و الفولاذ والضجر ِ يا غربة الروح ِ... لا شمس فائتلق ُ فيها و لا أفق ُ (السياب) وقد تكون الوحدة نتيجة لعدم قدرة بعض الأشخاص على التعامل مع متطلبات التقدم التكنولوجي والتطور الحضاري وقد تكون بعض تلك التقنيات سببا في وحدة بعض الأشخاص وانعزالهم كانكفاء البعض على أجهزة الحاسب الآلي لساعات طويلة من النهار الأمر الذي يجعلهم يبتعدون عن التواصل الاجتماعي إلا أن الوحدة التي أتحدث عنها اليوم هي غربة الذات الموحشة والتي توصف في كثير من الأحيان بالبرودة ومن المدهش حقا أن نجد أن أخصائيين في علم النفس في جامعة تورنتو توصلوا إلى أن العزلة الاجتماعية تجعل الناس يشعرون بالبرد.فقد وجد فريق البحث ان الأشخاص الذين يشعرون بأنهم معزولون يعبرون عن الشعور بالبرد في الغرفة التي يكونون فيها أكثر من غيرهم. ويقول دكتور تشين بو زونج رئيس فريق البحث المنشور في مجلة «علم النفس»ربما لذلك تستخدم مفردات عن البرد والدفء لوصف العزلة والاندماج الاجتماعي. والغربة شعور أزلي رافق الشعراء والفلاسفة والمبدعين بشكل عام على مر التاريخ فيقول أبو حيان التوحيدي في» الإشارات الإلهية» ورسالة الغريب : « يا هذا! الغريب من غَرُبَتْ شمس جماله، واغترب عن حبيبه وعُذّاله، وأَعْرَبَ في أقواله وأفعاله، وعَرَّب في إدباره وإقباله، واستغرب في طِمْره وسِرْباله. يا هذا! الغريب من نطق وصفه بالمحنة بعد المحنة، ودلَّ عنوانه على الفتنة عُقَيْب الفتنة، وبانت حقيقته فيه الفينة حدّ الفينة. الغريب من إن رأيتَه لم تعرفه، وإن لم تره لم تستعرفه. الغريب من إن حضر كان غائباً، وإن غاب كان حاضراً.» بدأت أشعر بالبرودة وأنا أقرأ للتوحيدي معاناته وألمه من غربته وأشعر بالصقيع وأنا أصف عزلة الحزين الذي غربته نفسه وعذاباتها... فما أشدها على النفس أن يمارس الإنسان حياته داخل نفق مظلم بارد ولا يرى العالم إلا من خلال بقعة ضوء تنير له زاويته فقط. « أنا هذا البخور الذي لا يضوع عطره ما لم يحرق أنا هذا القنديل الذي لا يشع ضوءه ما لم يشعل.» (طاغور) *شاعرة وإعلامية سعودية [email protected]