من المعلوم أنّ إنجاز العمل الإداري، يقوم على أساس التسلسل الهرمي للتنظيم المعمول به بالجهة الحكومية أو بالمؤسسة الأهلية، حتى تصل المعاملة أو مادة العمل إلى صاحب القرار، فيصدر التوجيه المناسب حيال الموضوع المعني بها، فالموظف الذي تبدأ منه المعاملة يقوم بالعرض عنها لرئيس القسم، ثم تعرض لمدير الإدارة ثم للمدير العام، ثم تعرض لوكيل الوزارة أو المؤسسة الذي يرفع الموضوع إلى الوزير أو رئيس المؤسسة الخاصة، حيث يقوم بإصدار التوجيه الذي يراه مناسباً. ويختلف التطبيق العملي في مجال العمل الإداري في المراحل التي تمر بها المعاملة من جهة لأخرى، وأحياناً من إدارة لأخرى داخل الجهة الإدارية، فتجد أحياناً دوراً سلبياً في بعض المراحل التي تمر بها المعاملة، إذ يَقْصِر البعض دوره على مجرّد تمرير المعاملة فقط، وبدون أن يبذل جهداً فيها أو مشاركة ذي فاعلية، أو يكتفى بتأييد الرأي الذي ورد في المرحلة السابقة له لمجرّد التمرير وليس لقناعته به، في حين أنّ المفترض أن يبدي كل مختص ومسئول معني بالمعاملة، وجهة نظره حول موضوعها، وليس بالضرورة أن يختلف مع الرأي السابق، بل إنّه إذا كان يتفق مع ذلك الرأي فعليه أن يحدِّد السبب أو المستند الذي يجعله يأخذ به. إذاً فإنّ الأمر الطبيعي والمنطقي في المراحل التي تمر بها المعاملة، أن يقوم الموظف الذي تبدأ منه المعاملة بدراستها، وفق القواعد والأنظمة التي تحكمها، مستعيناً بما سبق أن تقرر في المعاملات السابقة المشابهة، ثم يقوم بإيضاح وجهة نظره الخاصة في المعاملة محل العرض، كما أنّ على رئيس القسم أن يستوعب المعاملة بعناية، ويحدد فيها وجهة نظره من واقع خبرته النابعة من المعاملات التي ترده من أكثر من موظف في القسم، فقد يكون هناك معاملة مماثلة أنهيت إجراءاتها من موظف آخر، ولم يكن لدى الموظف الذي درس المعاملة محل العرض علم بها، وكذلك الشأن بالنسبة لمدير الإدارة والمدير العام، بحكم إشرافهما على العديد من الإدارات، مما يفترض منهم الربط بين المعاملات التي تعرض عليهم بما لا يتعارض مع التوجُّه العام لنشاط الجهة الإدارية. لذلك فإنّ تفاعل الرؤساء والمرؤوسين مع كل معاملة بالدراسة الدقيقة وإبداء الرأي السليم، يخدم مصلحة العمل بشكل عام، كما أنّه يساعد المسئول الأعلى في اتخاذ القرار المناسب، حيث يجد نفسه أمام معاملة مدروسة بجدية، وقد طرح حيالها رأي سليم مجمع عليه، أو العديد من الآراء الصحيحة، وبالذات في المعاملات الجديدة التي تعرض لأول مرة ولم يكن لها مثيل سابق والتي تهيئ للمسئول فرصة الاختيار من بين هذه الآراء، بما يراه محققاً للمصلحة العامة أو مصلحة العمل والمراجعين، وعلى الرؤساء الإداريين تقبُّل مبدأ تعدُّد الآراء، وتشجيع مرؤوسيهم لإبداء مرئياتهم حتى ولو اختلفت مع آرائهم، فالعبرة هنا بالرأي الصحيح الذي يخدم مصلحة العمل أيّاً كان مصدره، ذلك أنّ تشجيع المرؤوسين لإبداء آرائهم، يجعلهم مبدعين وليسوا اتكاليين، أو مجرّد كتبة فقط. ومبدأ تعدُّد الآراء في العمل الإداري من المبادئ الإدارية الحديثة، وهو صورة من العمل الجماعي المطبق في كثير من الدول المتقدمة، كالولايات المتحدة واليابان والذي يتم بموجبه مناقشة وإنجاز الأعمال بصورة جماعية، وعلى طاولة واحدة بين الرؤساء والمرؤوسين، وغيرهم من المعنيين بحيث يتاح لكل منهم طرح وجهة نظره ومبرراتها، ثم تجري مناقشة مشتركة من أجل الوصول للرأي المناسب، إما بإجماع الحاضرين أو على الأقل الأكثرية منهم. مع أن هذا المبدأ قد عرف قبل ذلك في التشريع الإسلامي، فقد تعدّدت المدارس الفقهية في مختلف العصور الإسلامية، وكان من ثمار ذلك تلك الثروة الكبيرة من المصنّفات الفقهية التي تعالج الكثير من قضايا المجتمع الإسلامي التي أصبحت فيما بعد مصدراً رئيسياً للقوانين العربية والأجنبية، فقد استفادت فرنسا مثلاُ من الفقه الإسلامي إبِّان الوجود الإسلامي في أسبانيا عند قيامها بوضع قوانينها بعد انتهاء فترة التخلف والظلام التي سادت أوربا في العصور الوسطى. وفي بلادنا يجري العمل بهذا المبدأ، وبالذات منذ بداية النهضة الإدارية الحديثة بالإصلاح الإداري سنة 1379ه، حيث أنشئ (كما سبق أن أشرنا) معهد الإدارة العامة سنة 1380ه والمجلس الأعلى للتخطيط والذي يعتبر نواة وزارة الاقتصاد والتخطيط، وفي سنة 1391ه صدر العديد من الأنظمة الإدارية الحديثة، ومنها نظام الموظفين العام ونظام تأديب الموظفين الذي أكد على أهمية رأي المرؤوسين، وأنّه في حالة عدم موافقة الرئيس المباشر على رأي أحد مرؤوسيه بالرغم من صحته وتمشيه مع القواعد النظامية، فعلى الموظف المرؤوس أن يطلب توجيهاً مكتوباً من رئيسه حيال المعاملة أو الدراسة المعروضة حتى يكون الموظف بعيداً عن مسئولية تطبيق رأي رئيسه. كما اهتمت بلادنا بالرأي الهادف الذي من شأنه خدمة المصلحة العامة أو مصلحة العمل عندما تم إنشاء العديد من المجالس والهيئات الاستشارية، كهيئة كبار العلماء ومجلس الشورى ومجالس المناطق وهيئة الخبراء وهيئة حقوق الإنسان وإدارات المستشارين في مختلف الأجهزة والمصالح والمؤسسات الحكومية، وكذلك في الشركات والمؤسسات الأهلية، وذلك انطلاقاً من مبدأ أنّ (الحقيقة هي وليدة قرع الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان حتى تنجلي وتظهر) كما أنّه إضافة لذلك يوجد العديد من الإيجابيات لتعدُّد وجهات النظر والبدائل في مجال الأعمال ومنها: * إثراء الموضوع المطروح للبحث أو المعاملة محل الدراسة في سبيل الوصول إلى الحل والرأي المناسب، مما يساعد المسئول على اتخاذ القرار السليم. * بث روح المشاركة والتعاون بين مختلف العاملين في الجهاز الإداري. * تلافي الظواهر الإدارية السلبية كالمركزية والبيروقراطية في سير العمل الإداري. * تشجيع ذوي الكفاءات والمهارات في القيام بالمزيد من الدراسات والبحوث عندما يعلمون أنّ أفكارهم مأخوذة بعين الاعتبار. * تعزيز مبدأ المصارحة والمكاشفة في العمل الإداري بين الرؤساء والمرؤوسين. * الوصول إلى مستندات أو معلومات أو دراسات تتعلّق بالموضوع التي قد تكون معلومة لدى البعض دون الآخرين. * انعكاس ذلك إيجابياً على الموظف في حياته الخاصة حيث سيجمعه ذلك على احترام وجهات النظر داخل أسرته ومع أصدقائه ومعارفه. من ناحية أخرى فإنّ تعدُّد الآراء من المرؤوسين والرؤساء حول معاملة أو دراسة معيّنة يحتمل ما يلي: * أن يكون رأي المرؤوسين مستنداً إلى حجج وأسس من الأنظمة واللوائح التنفيذية ونحوهما، ورأي الرئيس مجرّد رأي اجتهادي ذاتي ليس له مستندات واضحة، ففي هذه الحالة ترجح كفة رأي المرؤوس. * أن يكون رأي المرؤوس مستنداً إلى نصوص نظامية، ولكن هذا الرأي جاء بفهم خاطئ لمفهوم النص ورأي الرئيس جاء موضحاً الخطأ، ففي هذه الحالة ترجّح كفّة رأي الرئيس. * أن يكون كلا الرأيين للرئيس والمرؤوس اجتهاديان، ولا يعتمدان على قواعد نظامية، إمّا لعدم وجودها أو لعدم العلم بها، ففي هذه الحالة يحال الأمر إلى طرف ثالث قد يكون الرئيس الأعلى لهما، وقد يكون للإدارة المختصة بإبداء الرأي النظامي في الجهة الحكومية أو المؤسسة الأهلية. وأخيراً نود الإشارة إلى أنّ تعدُّد الآراء والبدائل في موضوع معيّن ليس هو الهدف بحد ذاته، إنّما هو وسيلة للوصول إلى الرأي الصحيح الذي يخدم المصلحة العامة أو مصلحة العمل أو مصلحة المراجع التي ينبغي أن تكون هي الغاية والهدف، وليس المقصود من ذلك مجرّد الظهور فقط، كما ينبغي إذا كان لأي شخص أو موظف رأي في موضوع معيّن وتبين وجود رأي أقوى منه وأقرب للمصلحة العامة عدم التمسك أو التعصب لرأيه، بل التراجع عنه إلى الرأي الأنسب والأصلح، فالرجوع إلى الحق أحق بالاتباع. [email protected] [email protected]