الإسلام -كما هو معلوم- هو الدين الخاتم, وهو رسالة الله الأخيرة للبشرية, فلا غرو أن تكون تلك الرسالة شاملة عامة صالحة لكل زمان ومكان وأمة.. وأحكام الإسلام لم تختص بتعامل المسلمين فيما بينهم، بل هي عامة تُظِل جميع الناس على اختلاف أديانهم؛ ففي شمول الإسلام وعمومه ما يبيِّن كيفيه التعامل مع كافة الطبقات من أهل الإسلام وغيرهم.. وهذا يعنى أن الإسلام دين عملي, واقعي, وليس نظرياتٍ مُغْرِقةً في المثالية التي لا تتلاءم مع واقع الحياة والناس.. والله -عز وجل- خلق الناس, وقرر أن منهم كافراً, ومنهم مؤمناً. وأمر -عز وجل- بدعوة الناس إلى الهدى, ولكن لم يُكَلِّف الداعين بإدخال الناس في الدين الحق {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ} الشورى: 48. ومن هنا فإن سنة الاختلاف بين الناس قائمة مقررة في القرآن: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} هود. ولا يعنى ذلك إقرارَ الباطل، ولا قبولَ كلِّ المذاهب أو تسويغَها, أو الرضا بها, أو تركَ الإنكارِ عليها, وبيانِ زيغها، ودعوتِها إلى الحق. وإنما المطلوبُ في ذلك حسنُ التعامل مع تلك الاختلافات, واتباع هدي الإسلام بالحوار مع المخالف، والأخذ -في الأصل- بمبدأ الرفق واللين؛ فجميع آداب المعاملة في الدين يرجع إلى الدعوة للدين بالحكمة, والموعظة الحسنة, والجدال بالتي هي أحسن في قالب التسامح بقدر الإمكان تسامحاً لا ينتقض شيئاً من عرى الإسلام, ولا يُجرِّؤُ أحد على حرمته وسلطانه. ثم إن التسامح في الإسلام وليدُ إصلاحِ التفكيرِ ومكارمِ الأخلاق اللذين هما من أصول النظام الاجتماعي في الإسلام -كما يقول ابن عاشور-.. وهذا التسامح ناشئ من صحة الاعتقاد الذي يأمر صاحبه بكل خير, وينأى به عن كل شر, ويضبط عواطفه, ويجتث من نفسه كافة الرعونات. ولا ريب أن العقل السالم من الشهوات والشبهات يسوق صاحبه إلى العقائد الحقة, ويكسبه الثقةَ بعقيدته, والأمنَ من أن يزلزلها مخالف. غير أنه ربما أحس من ضلال مخالفه بإحساس يَضيقُ به صدره, وتمتلئ منه نفسه تعجباً من قله اهتداء المخالفين إلى العقيدة الحقة, وكيف يغيب عنهم ما يبدو له هو واضحاً بيناً؛ فهنا يجيء عملُ مكارم الأخلاق, فيكون من النشأة على مكارم الأخلاق, ومن التأدب بآداب الشرع الحكيم مَعْدلٌ لذلك الحرج, وشارحٌ لذلك الصدرِ مِن الضِّيق؛ فيتدرب بذلك على تلقي مخالفات المخالفين بنفس مطمئنة, وصدر رحب, ولسان طلْق؛ لإقامة الحجة, والهدى إلى المحجة دون ضجر ولا سآمة. وقد جاءت وصايا الإسلام مثيرةً لهذين الأصلين، وهما أصل الثقة بصحة العقيدة, وأصل مكارم الأخلاق في نفوس أبنائه, فأما إثارة أصل الثقة بصحة العقيدة دون التفات لعقيدة الآخرين فبمثل قول الله -تعالى-: {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} النمل: 79-80. وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) المائدة: 105. وأما إثارة أصل مكارم الأخلاق فبمثل قوله -تعالى-: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} الكهف: 6.. ومعنى باخع: مهلك.. ولا ريب أن هذه الإثارة الأصل تُوَسِّع الصدر, وتوطِّن النفس على احتمال ما يكون من المخالف. *جامعة القصيم