د. عبدالله بن ناصر الصبيح - نقلا عن مجلة العصر حينما قرأت مقال أخي أبي عمرو محمد الأحمري سلمه الله : "فضل الله فقيد الاجتهاد الشيعي"، ثار في الذهن سؤالان: أولهما: ما حقيقة التصحيح الذي دعا إليه محمد حسين فضل الله ومحمد باقر الصدر، وما مقدار عمقه في تراثهما، والثاني: لماذا لم نر لهذا التصحيح أثرا في حزب الدعوة العراقي، الذي أنشأه باقر الصدر وفي شيعة لبنان المتأثرين بفضل الله. وتمنيت لو أن بعض المختصين ممن درس حركة التصحيح الشيعي أجاب على هذين السؤالين. وما كتبه أخي أبو عمرو وتعليق أخي إبراهيم السكران على مقاله إنما هو جزء من الصورة، وقد رأيت أن أضيف ما يمكن أن يسهم في استكمالها عن العالمين ويظهر لي أن هدف الأخ إبراهيم من مقاله هو حماية شباب السنة من الاستنتاجات الخاطئة، فبعض من قرأ مقالة الدكتور محمد الأحمري ربما استنتج من حديثه عن التصحيح أن فضل الله انتقل من الانحراف الشيعي إلى السواء السني، مع أن أبا عمرو لم يرد هذا في مقاله بل كان صريحا واضحا حينما جعل عنوان مقاله: "فضل الله فقيد الاجتهاد الشيعي"، ففضل الله لازال شيعيا إماميا اثني عشريا، ولكنه مع ذلك اجتهد في داخل المذهب وقدم رؤية تصحيحية غضب بسببها بعض مراجع الشيعة وثوروا عليه العامة وضللوه ورأينا في بعض مواقع الشبكة التحذير منه وتكفيره. وما دام محمد حسين فضل الله لازال إماميا اثني عشريا، فنفترض أننا سوف نجد عنده كثيرا من الأخطاء التي نجدها عند الشيعة في الأصول والفروع. وفي أثناء مطالعاتي في تراث فضل الله مما هو منشور في الشبكة العنكبوتية، وجدت عددا من المسائل رأيت فيها جرأة ومخالفة للسائد العام عند الشيعة المعاصرين، وهذا بعضها: الأولى: حديث فضل الله عن التوحيد والشرك ومعارضته لدعاء غير الله من المقبورين، وهذا الحديث من الأهمية بمكان في التصحيح الشيعي لأن الخلاف الأكبر بيننا وبينهم هو في قضية التوحيد ودعاء غير الله وصرف ما يستحقه الله إلى غيره من المخلوقين. ولو تصحح هذا الجانب لتصحح ما بعده ولو سلم التوحيد عند الشيعة لسقط كثير من الضلال في العقيدة الشيعية. وفضل الله له تسجيلات منشورة في الشبكة تنكر الشرك وله كلام مكتوب مدون في تفسيره :"من وحي القرآن"، وفي كلامه المسجل أنكر دعاء غير الله والاستغاثة وما يفعل عند القبور من النذر لها والتبرك بها ودعائها من دون الله، وأنكر على الشيعة دعاء الأموات وما يفعلونه عند قبور الأئمة من الدعاء والنذر والاستغاثة. وكلام فضل الله هنا موجز ولكنه واضح في استنكار مظاهر الشكر، ولما تناول القضية نفسها في تسجيل حديث والقضية نفسها، تناولها في تفسيره عند قول الله تعالى: "إياك نعبد وإياك نستعين"، كان أيضا مضطربا، فما أثبته في موضع نفاه في موضع آخر, فمثلا من القضايا لتي قررها أن دعاء الميت لا يكون عبادة إلا إذا صحبه "الاستغراق الذي يحمل معنى التألّه"، وفسره بأن يستغرق الداعي في شخص المدعو: "بحيث يوجه الخضوع إليه، في أشكاله المتنوّعة، من خلال الأسرار الإلهية المخزونة في ذاته، بحيث تجعله واسطةً بين النّاس وبين اللّه، لتكون عبادتهم له من أجل الحصول على وساطته في القرب من اللّه، كما ورد في حديث اللّه عن المشركين الذين يعبدون الأصنام ليبرِّروا ذلك بقولهم الذي ذكره اللّه تعالى: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللّه زُلْفَى الزمر:3". وألمح فضل الله إلى الخلاف بين السلفيين وغيرهم من السنة والشيعة ودعا إلى حسم الخلاف بالحوار، ثم قال: "وهكذا نرى أنَّ الذهنية العقيدية لدى المسلمين لا تحمل أيّ لون من ألوان الشرك بالمعنى العبادي، كما لا يحملون ذلك بالمعنى الفكري، بل يختزنون، في دائرة التعظيم للأنبياء والأولياء، الشعور العميق بأنَّ اللّه هو خالق الكون ومدبّره، وأنَّ هؤلاء لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً إلاَّ به، وأنَّ كلّ ما لديهم مما يعتقد النّاس أنهم يملكون التأثير فيه بشكل وآخر، هو من آثار لطف اللّه بهم في تمكنهم من ذلك بإذنه وإرادته، تماماً كما هو الإيحاء في ما تحدّث به القرآن عن عيسى (ع) في حديثه عن مواقع قدرة اللّه في ذاته، وذلك قوله تعالى: أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّه وَأُبْرِىءُ الاْكْمَهَ والاْبْرَصَ وَأُحْيي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّه آل عمران:49. وإذا كان اللّه قادراً على أن يحقِّق ذلك من خلالهم في حياتهم، فهو القادر على أن يحقّق ذلك بعد مماتهم باسمهم ، لأنَّ القدرة، في الحالين، واحدة في ما يريد اللّه له أن تتجلى قدرته في حركة خلقه. فليس في ذلك شيء من الشرك، بالمعنى الدقيق لهذا المفهوم". وبهذه النتيجة نجد أن فضل الله فتح باب الشرك على مصراعيه بحجة ما ذكره من اشتراط التأله وما ذكره عن قدرة الأولياء من أنه من لطف الله بهم وأن الله قادر على أن يحقق هذا اللطف فيمنحهم القدرة ولو كانوا أمواتا بمجرد ندائهم بأسمائهم. التأله يمكن أن يكون فرقا بين دعوة الحي ودعوة الميت، ولكن دعوة الميت لا تخلو من التأله، أو قصد العبادة، فمن دعا ميتا فما دعاه إلا لاعتقاده أنه ينفع ويضر ويجيب من دعاه، ولهذا تجده يلجأ إليه في وقت الكربة والشدة ويدعوه فيما لا يقدر عليه إلا الله، وهذا عين الشرك. وقد نهى الله عن ذلك كله وعده شركا قال تعالى: (وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ * وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ) وقال: (فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ)، وقال: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ). فدعاء الميت والاستغاثة به لا يكون إلا من تعظيمه واعتقاد أنه ينفع ويضر وهذا هو العبادة، ولهذا نهى الله عنه وعده شركا. وأما قول فضل الله بأن الله قادر أن يمنح الأموات القدرة، فيستجيبون لمن يدعوهم، فهذا هو ما يدعيه المشركون لأصنامهم، ولهذا قالوا عن الملائكة بنات الله، وقالوا عن أصنامهم إنها تقربهم على الله زلفى. وللإنصاف فما قرره فضل الله في تفسير سورة الفاتحة في معنى الشرك والعبادة يخالف ما نجده في بعض الأشرطة الصوتية والمرئية في الشبكة، ولست أدري هل تغير رأيه بعد أن تقدمت به السن فأصبح أكثر وضوحا في حكم الشرك، أو أن مافي التفسير تفصيل لما أجمل في محاضراته المنشورة. الثانية: دعوة فضل الله إلى أن يفهم القرآن وفقا لدلالات اللغة العربية، ورفض التفسير الباطني ورد بعض المرويات الشيعية التي تحاول حرف النص عن معناه الظاهر الذي دلت عليه اللغة. وعلى القارئ مراجعة مقابلة مع فضل الله في مجلة الحياة الطيبة/السنة3/العدد8 (1422ه/شتاء2002م)، ومما جاء فيها: الحياة الطيبة: تفسير القرآن الكريم حسب القواعد اللغوية، سيكون كما تتفضلون، أما إذا تحدثنا عن نماذج معصومة في تفسير الآيات خلافاً لمعناها الظاهر، ماذا ترون حول هذا النمط من التأويل؟ السيد فضل الله: أنا أقول لا يمكن أن يُفسر القرآن بما ليس ظاهراً فيه لغةً، أو عرفاً، أو ليس عليه قرينة في عالم التفهيم والتفاهم. وإلا يكون خطأ في فهم النص عموماً قرآناً وسنّة، ففي السنّة هناك الجمع بين "ثمن العذرة من السحت"، و"لا بأس ببيع العذرة" هذا الجمع "التورعي" أو "التبرعي" لا يُقبل؛ لأنه ليس هذا قرينة على ذلك. ومن جديد، فقد لاحظت في تفسيري: أن أكثر ما ينسب إلى أهل البيت(ع) هو من باب ذكر المصداق، أو من باب الإيحاء، مثلاً عندنا ما يقرب من عشرين رواية في تفسير آية {قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب}، تقول: إن المراد بها هو أمير المؤمنين(ع) طبعاً، يقولون إنها من باب بيان المصداق، ولكن لا يمكن أن يكون المراد من اللفظ هو الإمام(ع)؛ لأن السياق لا يتحمل أن يقول النبي(ص): أُشهد الله على صدقي، وأُشهد ابن عمي. لعل الأئمة (ع) أرادوا أن ينبهوا أن علياً (ع) عنده علم الكتاب، لا أنه المراد من اللفظ. إذاً نقول إن أغلب هذه الأحاديث إما غير صحيحة، وإما أنها من باب الجري، وبعضها لا بد من ردّ علمه إلى أهله؛ لأن الأخذ بها يربك النص القرآني في مستواه الغني الذي هو في أعلى درجات الفصاحة، ويشكل قمة الإعجاز البلاغي البياني. مثلاً، آية {كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس}، تُفسّر في بعض الروايات ب"كنتم خير أئمة أخرجت للناس"، وهذا غلط؛ لأنه لا يصح "أخرجت"، لو كانت الآية "خير أئمة" بل لا بد أن نقول "أخرجوا"، والحاصل أنه لا بد من حمل اللفظ على معناه سواء أسميناه ظاهرياً أم باطنياً، شرط أن ينسجم مع قواعد البلاغة، وإلا فإن النص القرآني يخرج عن دائرة البلاغة. الحياة الطيبة: لكن وجود فكرة البواطن القرآنية تنسجم مع فكرة أن مرادات الله لا تستوعبها الألفاظ.. السيد فضل الله: إن فكرة عدم استيعاب اللفظ لمراد الله، غير مقبولة؛ لأن الله يقول: {إنا أنزلناه قرآناً عربياً} {بلسان عربي مبين}؛ أي أن الله أراد أن يبين لنا ما يريده من خلال اللغة، بما تتحمله اللغة، وأما المعاني التي لا تتحملها اللغة، فلا مجال للتعبير عنها بها، وكون الله يريد تلك المعاني، فهذا أمر لا تبرير له. صحيح أن علم الله لا يتناهى، ولكن الله لم يكشف لنا كل هذا العلم في القرآن. ولذلك أنا أرى أنه لا معنى للتفسير الباطني، لأنه من قبيل استعمال اللفظ في أكثر من معنى إلا أن يكون تأويلاً، أو بياناً للمصداق، أو استيحاءً كما ورد عن الإمام الباقر(ع) في آية {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً}، حيث يرى(ع): "أن تأويلها الأعظم من نقلها من ضلال إلى هدى"، فالقتل بمعناه الظاهري هو القتل الجسدي، ولكن الإمام(ع) كأنه يقول: إذا كان الله يمن علينا بهذا فالحياة المعنوية أهم وأولى. وكذلك آية: {فلينظر الإنسان إلى طعامه}، هناك رواية تقول "طعامه: علمه" والمقصود بقرينة السياق العام للآية من كلمة "الطعام" هو معناها المعروف، ولكن تفسيره بالعلم استيحاء، نعم ربما يكون المعنى أحياناً عميقاً وله عدة أعماق بحسب وعي المتلقي مثل قضية التوحيد "لا إله إلا الله"، هذه الكلمة تدل على التوحيد، وقد يفهمه الإنسان بشكل ساذج، وقد يفهمه بمعناه العميق، بالتفصيلات التي يذكرها المتكلمون، فإذا كان المراد بالباطن هذا الأمر فنحن نوافق عليه أيضاً". وهذا المنهج الذي يعتمد دلالة اللغة في فهم النص القرآني يحرر العقل من أسر الخرافة والمرويات الشيعية المتناقضة التي لم تثبت ولكن لست أدري ما مدى التزام فضل الله هذا المنهج في تفسيره. الثالثة: يعتقد الشيعة أن للأئمة تأثيرا في الكون وهذه يسميها الخميني بالولاية التكوينية، وقد قال في كتابه الحكومة الإسلامية: "إن من ضرورات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل" وذكر أنهم يتصرفون في الكون"، ومستند الخميني في هذه العقيدة بعض النصوص الواردة في كتاب الكافي للكليني. وقد ألف محمد حسين فضل الله رسالة في رد هذه العقيدة عنوانها: "نظرة إسلامية حول الولاية التكوينية"، وذكر لمعناها خمسة احتمالات وقال كلها باطلة ماعدا القول بأن الله يجري المعجزة على يد النبي أو الكرامة على يد الولي وقال بان هذا ليس مراد من قال بهذه العقيدة، وما أراده معنى باطل واستدل على بطلانه بالقرآن. وفضل الله أبطل هذه العقيدة لأنه اقترب في فهمه للتوحيد من المعنى الصحيح فأدرك أن القول بالولاية التكوينية يتضمن اعتداء على توحيد الله سبحانه فردها. ومما خالف فيه فضل الله الخميني أيضا ولاية الفقيه. ومراجعات فضل الله ونقده لبعض قضايا المذهب الشيعي الإمامي على اختلاف مستوياتها نافعة للشاب الشيعي، لأنها تسهم في تحرير ذهنه من سطوة الخرافة والتقليد. وبسببها أورد موقع الميزان في الرد على المنحرفين عقائديا، شهادات ثمانية وثلاثين من المراجع الشيعية كلها تقول بانحراف فضل الله وأنه ليس أهلا للتقليد. ويلاحظ أن نقد فضل الله والهجوم عليه إنما جاء بعد قيام الحكومة الشيعية في إيران، فحوصرت أفكاره حصارا شديدا وضعف النهج التصحيحي عند الشيعة، وتعاظمت المرجعية الفارسية. والآن ماذا عن محمد باقر الصدر؟ اشتهر الصدر بأنه رمز للاعتدال الشيعي، وكتبه التي اشتهر بها لم تكن معنية بتقرير العقيدة الشيعية، وإنما كانت تقرر الفكرة الإسلامية بعيدا عن المنظور الطائفي، ومن قرأ كتبه: إسلامنا واقتصادنا والأسس المنطقية للاستقراء، لا يشعر فيها بنفس طائفي، وهذا قدم الصدر بصورة إيجابية إلى المجتمع السني. ولكن يشوش على هذا كتب الصدر الطائفية وقد اطلعت على اثنين منها، وهما "نشأة التشيع والشيعة" و"فدك في التاريخ"، والأول كان في الأصل تصديرا بقلم الصدر لكتاب الدكتور عبد الله فياض، الموسوم ب"تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة"، الذي صدرت طبعته الأولى في بغداد مطبعة أسعد عام 1390 ه / 1970م. ثم نشر في كتاب مستقل عام 1397 ه في القاهرة بإشراف السيد طالب الحسيني الرفاعي. أما الكتاب الثاني، فيقول عنه الصدر: "هذا إنتاج اغتنمت له عطلة من عطل الدراسة في جامعتنا الكريمة النجف الأشرف وتوفرت فيها على درس مشكلة من مشاكل التاريخ الإسلامي، وهي (مشكلة فدك)، والخصومة التاريخية التي قامت بين الزهراء (صلوات الله عليها) والخليفة الأول (رضي الله تعالى عنه). وكانت تتبلور في ذهني استنتاجات وفكر، فسجلتها على أوراق متفرقة، حتى إذا انتهيت من مطالعة مستندات القضية ورواياتها، ودرس ظروفها، وجدت في تلك الوريقات ما يصلح خميرة لدراسة كافية للمسألة، فهذبتها ورتبتها على فصول، اجتمع منها كتيب صغير، وكان في نيتي الاحتفاظ به كمذكر عند الحاجة، فبقي عندي سنين مذكرا ومؤرخا لحياتي الفكرية في الشهر الذي تمخض عنه، غير أن حضرة الوجيه الفاضل الشيخ محمد كاظم الكتبي ابن الشيخ صادق الكتبي (أيده الله)، طلب مني تقديمه إليه ليتولى طبعه. وقد نزلت على رغبته تقديرا لأياديه البيضاء على المكتبة العربية والإسلامية". كيف يرى الصدر نشأة التشيع؟ يرى الصدر في كتيبه "نشأة التشيع والشيعة"، أنه نشأ اتجاهان في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم: أحدهما يؤمن بالنص ويستسلم له ويتعبد بالدين تعبدا كاملا، والآخر يرى من حقه التغيير في النص ورده، يقول الصدر: المبحث الأول نشوء اتجاهين رئيسين في حياة النبي (ص): إن الاتجاهين الرئيسين اللذين رافقا نشوء الأمة الإسلامية في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) منذ البدء هما: أولا: الاتجاه الذي يؤمن بالتعبد بالدين وتحكيمه والتسليم المطلق للنص الديني في كل جوانب الحياة. وثانيا: الاتجاه الذي لا يرى أن بالدين يتطلب منه التعبد إلا في نطاق خاص من العبادات والغيبيات، ويؤمن بإمكانية الاجتهاد وجواز التصرف على أساسه بالتغيير والتعديل في النص الديني وفقا للمصالح في غير ذلك النطاق من مجالات الحياة ...". ويقول: "ونحن حينما نتحدث عن قيام اتجاهين منذ صدر الإسلام: أحدهما، اتجاه التعبد بالنص، والأخر، اتجاه الاجتهاد ونعني بالاجتهاد هنا، الاجتهاد في رفض النص أو قبوله". وهذا الذي سماه الصدر الاجتهاد في النص هو في الحقيقة العبث في النص والتمرد عليه، ولكنه سماه اجتهادا تلطيفا للعبارة، انظر ماذا قال مرة أخرى: "يؤمن بإمكانية الاجتهاد وجواز التصرف على أساسه بالتغيير والتعديل في النص الديني وفقا للمصالح"، فهذا الاتجاه يؤمن بجواز تغيير النص وفق مصالحه، وهذا هو العبث بالدين، فهل كان الصحابة رضوان الله عنهم كذلك؟ والصدر يرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمارس الشورى ولم يرب الأمة عليها، يقول: "ونستطيع بسهولة أن ندرك أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يمارس عملية التوعية على نظام الشورى، وتفاصيله التشريعية، ومفاهيمه الفكرية، لان هذه العملية لو كانت قد أنجزت، لكان من الطبيعي أن تنعكس وتتجسد في الأحاديث المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وفي ذهنية الأمة، أو على الأقل في ذهنية الجيل". قلت مؤدى هذا القول، أن الرسول صلى الله عليه وسلم خالف أمر ربه عز وجل حينما قال: "وشاورهم في الأمر". وفي كتاب "فدك في التاريخ"، يفصل ما كان مجملا في هذا الكتاب، ويبين أن الاتجاه الأول يتكون من علي ومن معهم من آل البيت وبعض الصحابة رضوان الله عنهم وهؤلاء بقوا في المعارضة بعد أن تولى الاتجاه الثاني السلطة، وهذا الاتجاه فيه أبو بكر وعمر وجل الصحابة رضوان الله عنهم. ويفصل الصدر الحديث عن الاتجاهين، فيقول عن الاتجاه الثاني : "ولم يعرفوا لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم حقوقهم، ولا لبيتهم حرمة تصونه من الإحراق والتخريب" (ص 26). ويتخيل الصدر فاطمة رضي الله عنها تخاطب نفسها قائلة: "إن عمر الذي هجم عليك في بيتك المكي الذي أقامه النبي مركزا لدعوته قد هجم على آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دارهم وأشعل النار فيها أو كاد.. ." (ص 28). ويقول الصدر عن حزب المعارضة: "ونعلم أيضا أن رجالات الحزب المعارض وأعني به أصحاب علي كانوا بالمرصاد للخلافة الحاكمة، وكان أي زلل وانحراف مشوها للون الحكم حينذاك، كفيلا بأن يقلبوا الدنيا رأسا على عقب، كما قلبوها على عثمان يوم اشترى قصرا، ويوم ولى أقاربه، ويوم عدل عن السيرة النبوية المثلى مع أن الناس في أيام عثمان كانوا أقرب إلى الميوعة في الدين" (ص50). في كتاب التشيع، وضح لنا الصدر أن الخلاف بين الحزبين إنما هو خلاف في التعامل مع النص، فأحدهما يرى الواجب عليه التسليم للنص والآخر يرى من حقه رد النص إذا لم يعجبه ولكن في كتاب فدك في التاريخ يشرح جذور الصراع بين الاتجاهين بصورة أعمق، ويوضح لنا أن الصراع بدأ في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم حينما كانت عائشة وفاطمة رضي الله عنهما تتنافسان على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، أما موقف أبي بكر من علي وفاطمة رضي الله عنهم جميعا، فسببه أن أبا بكر تقدم لخطبة فاطمة فرده الرسول وزوجها لعلي، وموقف علي من عائشة سببه أن المنافسة بين فاطمة وعائشة وأراد علي أن يزيح عائشة عن طريق. يقول الصدر: "ونحن نعلم جيدا سر الانقلاب الذي طرأ على السيدة عائشة حين إخبارها بأن عليا ولي الخلافة يرجع إلى الأيام الأولى في حياة علي وعائشة حينما كانت المنافسة على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين زوجته وبضعته". ومن شأن هذه المنافسة أن تتسع في آثارها فتثبت مشاعر مختلفة من الغيظ والتنافر بين الشخصين المتنافسين وتلف بخيوطها من حولهما من الأنصار والأصدقاء، وقد اتسعت بالفعل في أحد الطرفين فكان ما كان بين السيدة عائشة وعلي، فلا بد أن تتسع في الطرف الآخر فتعم من كانت تعمل أم المؤمنين على حسابه في بيت النبي. نعم إن انقلاب أم المؤمنين إنما هو من وحي ذكريات تلك الأيام التي نصح فيها علي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يطلقها في قصة الإفك المعروفة. وهذا النصح إن دل على شيء فإنه يدل على انزعاجه منها ومن منافستها لقرينته، وعلى أن الصراع بين زوج الرسول وبضعته كان قد اتسع في معناه وشمل عليا وغير علي، ممن كان يهتم بنتائج تلك المنافسة وأطوارها" (ص61). "نعرف من هذا أن الظروف كانت توحي إلى الخليفة الأول بشعور خاص نحو الزهراء وزوج الزهراء، ولا ننسى أنه هو الذي تقدم لخطبتها فرده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم تقدم علي إلى ذلك فأجابه النبي إلى ما أراد . وذاك الرد وهذا القبول يولدان في الخليفة إذا كان شخصا طبيعيا يشعر بما يشعر به الناس، ويحس كما يحسون شعورا بالخيبة والغبطة لعلي إذا احتطنا في التعبير وبأن فاطمة كانت هي السبب في تلك المنافسة بيه وبين علي التي انتهت بفوز منافسه" (ص63). إن هذا التفسير ينزل بالبيت النبوي من مقامه الرفيع إلى مقام دني توجه أصحابه الغرائز البشرية، وهو مقام لا يليق بالنبوة، كما لا يليق بمقام العصمة الذي يسبغه الصدر وفقا للعقيدة الشيعية على علي وفاطمة رضي الله عنهما، ولكن يبدو أنه مع التعصب المذهبي يغيب العقل والخلق معا. والصدر لم يقف عند هذا الحد فنظريته في التنافس وتفسير أحداث السيرة بها مدها لتشمل علاقة أبي بكر بالرسول صلى الله عليه وسلم بل إن الوحي دخل عنصرا في اللعبة أيضا، يقول الصدر: "ولنلاحظ أيضا أن أبا بكر هو الشخص الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقرأ سورة التوبة على الكافرين، ثم أرسل وراءه وقد بلغ منتصف الطريق ليستدعيه ويعفيه من مهمته لا لشيء إلا لأن الوحي شاء أن يضع أمامه مرة أخرى منافسه في الزهراء الذي فاز بها دونه. ولا بد أنه كان يراقب ابنته في مسابقتها مع الزهراء على الأولية لدى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتأثر بعواطفها كما هو شأن الآباء مع الأبناء. وما يدرينا لعله اعتقد في وقت من الأوقات أن فاطمة هي التي دفعت بأبيها إلى الخروج لصلاة الجماعة في المسجد يوم مهدت له أم المؤمنين" (ص62). ترى أي مقام أبقاه الصدر للنبوة حينما يكون النبي يتصرف في الشأن العام وفقا لرغبات ابنته التي تحركها غريزة صراعها مع زوجة أبيها. إن أم المؤمنين عائشة وسيدة نساء أهل الجنة فاطمة رضي الله عنهما أجل من هذا. ويربط الصدر قضية فدك ومطالبة فاطمة رضي الله عنها بها بنظرية التنافس هذا ثم يطورها فيجعلها قضية إسلام وكفر ونفاق وإيمان، ويرى أن الأمة انقلبت على أعقابها، وليس لهذا إلا معنى واحدا هو الكفر والردة، يقول الصدر: "إن التاريخ لا يمكننا أن نترقب منه شرح كل شيء شرحا واضحا جليا غير أن الأمر الذي تجمع عليه الدلائل أن من المعقول جدا أن يقف شخص مرت به ظروف كالظروف الخاصة التي أحاطت بالخليفة من علي وفاطمة موقفه التاريخي المعروف، وأن امرأة تعاصر ما عاصرته الزهراء في أيام أبيها من منافسات حتى في شباك يصل بينها وبين أبيها حري بها أن لا تسكت إذا أراد المنافسون أن يستولوا على حقها الشرعي الذي لا ريب فيه" (ص64). "فالممعن في دراسة خطوات النزاع وتطوراته والأشكال التي اتخذها لا يفهم منه ما يفهم من قضية مطالبة بأرض، بل يتجلى له منها مفهوم أوسع من ذلك ينطوي على غرض طموح يبعث إلى الثورة، ويهدف إلى استرداد عرش مسلوب وتاج ضائع ومجد عظيم وتعديل أمة انقلبت على أعقابها. فليست شيئا يحسب له المتنازعون حسابا. كلا! بل هي الثورة على أسس الحكم، والصرخة التي أرادت فاطمة أن تقتلع بها الحجر الأساسي الذي بني عليه التاريخ بعد يوم السقيفة. فالمسألة إذن ليست مسألة ميراث ونحلة إلا بالمقدار الذي يتصل بموضوع السياسة العليا، وليست مطالبة بعقار أو دار، بل هي في نظر الزهراء (مسألة إسلام وكفر، ومسألة إيمان ونفاق، ومسألة نص وشورى)" (ص64). الصدر يرى أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يتآمران على المسلمين في عهد الرسول صلى الله للاستئثار بالسلطة بعده، يقول الصدر: "ونجد فيما يروى عن الخليفتين في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على هوى سياسي في نفسيتهما، وأنهما كانا يفكران في شئ على أقل تقدير" (ص81). ويضيف لهما ثالثا هو أبو عبيدة رضي الله عنه، ويضيف ابنتي الخليفتين عائشة وحفصة فهما تتآمران معهما من داخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. اللهم لطفك يا رب، منطلق الهدى والنور بيت النبوة أصبح مركزا للتآمر على الأمة، أين العقل!! يقول الصدر: "بل أريد أن أذهب إلى أكثر من هذا فألاحظ أن أناسا متعددين كانوا يعملون في صالح أبي بكر وعمر وفي مقدمتهم عائشة وحفصة اللتان أسرعتا باستدعاء والديهما عندما طلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حبيبه في لحظاته الأخيرة التي كانت تجمع دلائل الظروف على أنها الظرف الطبيعي للوصية" (ص81-82). ويقول: "إذن فنخرج من هذا العرض الذي فرض علينا الموضوع أن نختصره بنتيجتين: (الأولى)، أن الخليفة كان يفكر في الخلافة ويهواها وقد أقبل عليها بشغف ولهفة. (الثانية)، أن الصديق والفاروق وأبا عبيدة كانوا يشكلون حزبا سياسيا مهما لا نستطيع أن نضع له صورة واضحة الخطوط، ولكنا نستطيع أن نؤكد وجوده بدلائل متعددة" (ص83). كيف يفسر الصدر أحداث سقيفة بني ساعدة، يقول الصدر: "ونلاحظ في هذه القصة أن عمر هو الذي سمع بقصة السقيفة واجتماع الأنصار فيها وأخبر أبا بكر بذلك، وما دمنا نعلم أن الوحي لم ينزل عليه بذلك النبأ فلا بد أنه ترك البيت النبوي بعد أن جاء أبو بكر وأقنعه بوفاة النبي، فلماذا ترك البيت؟ ولماذا اختص أبا بكر بنبأ السقيفة ؟ إلى كثير من هذه النقاط التي لا نجد لها تفسيرا معقولا أولى من أن يكون في الأمر اتفاق سابق بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة على خطة معينة في موضوع الخلافة، وهذا التقدير التاريخي قد نجد له شواهد عديدة تجيز لنا افتراضه" (ص75). وأبو عبيدة لا ميزة له عند الصدر، أما وصفه بأنه أمين هذه الأمة، فما هو إلا زعم من عمر، يقول الصدر: "وليست أمانة أبي عبيدة التي شهد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها بزعم الفاروق هي السبب في ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخصه بالإطراء، بل كان في رجالات المسلمين يومئذ من ظفر بأكثر من ذلك من ألوان الثناء النبوي" (ص78). ولما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم فاضطرب الناس وأنكر موته عمر وقال إنه ذهب لميقات ربه كما ذهب موسى، ثم لما جاء أبو بكر فخطب الناس وقال من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. هذا الموقف بجميع تفاصيله يرى الصدر أنه جزء من المؤامرة فعمر كان متآمرا لأن أبا بكر كان غائبا وخشي أن يتم شيء في الخلافة في غيابه فأشغل الناس بما قال وأبو بكر لم يقل شيئا جديدا ولم يظهر فيما قاله مشاعر الحزن على رسول الله، يقول الصدر: "فما يكون تفسير هذا كله إذا لم يكن تفسيره إن عمر شاء أن يشيع الاضطراب بمقالته بين الناس لينصرفوا إليها وتتجه الأفكار نحوها تفنيدا أو تأييدا ما دام أبو بكر غائبا، لئلا يتم في أمر الخلافة شئ ويحدث أمر لا بد أن يحضره أبو بكر على حد تعبيره وبعد أن أقبل أبو بكر اطمأن باله، وأمن من تمام البيعة للبيت ا لهاشمي ما دام للمعارضة صوت في الميدان، وانصرف إلى تلقط الأخبار حادسا بما سيقع، فظفر بخبر ما كان يتوقعه" (ص77). "وقد يكون من حق البحث أن ألاحظ أن شرح الخليفة لحقيقة الحال في خطابه الذي وجهه إلى الناس كان شرحا باهتا في غير حد لا يبدو عليه من مشاعر المسلمين المتحرقة في ذلك اليوم شيء، بل لم يزد في بيان الفاجعة الكبرى على أن قال: (إن من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات). وقد كان الموقف يتطلب من أبي بكر إذا كان يريد أن يقدم في نفسه زعيما لتلك الساعة تأبينا للفقيد الأعظم يتفق مع العواطف المتدفقة بالذكريات الحسرات يومئذ" (ص73). قلت لم يكن أبو بكر يريد أن يقدم نفسه زعيما للأمة في هذا الموقف وما ادعاه يوما رضي الله عنه وأرضاه. ويرى الصدر أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم بالمؤامرة فكون جيش أسامة وأوصى بإرساله بعد موته حتى يفرق المتآمرين ويخلو الجو لعلي رضي الله عنه، يقول الصدر: "ومذهب الشيعة في تفسير ما قام به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تجنيد جيش إسامة معروف، وهو أنه أحس بأن اتفاقا ما بين جملة من أصحابه على أمر معين، وقد يجعل هذا الاتفاق منهم جبهة معارضة لعلي" (ص82). ويرى الصدر أنه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ الصحابة في بيع أصواتهم لمن يدفع من الطامحين إلى السلطة وكان الصديق رضي الله عنه يغريهم بالمال، ولهذا حجب فدك عن فاطمة حتى لا ينافسه علي رضي الله عنه في شراء الأصوات، يقول الصدر: "وقد كان علي الذي تزعم معارضة الهاشميين مصدر رعب شديد في نفوس الحاكمين، لأن ظروفه الخاصة كانت تمده بقوة على لونين من العمل الإيجابي ضد الحكومة القائمة: أحدهما ضم الأحزاب المادية إلى جانبه كالأمويين والمغيرة بن شعبة وأمثالهم ممن كانوا قد بدأوا يعرضون أصواتهم للبيع ويفاوضون الجهات المختلفة في اشترائها بأضخم الأثمان" (ص 87). قلت أين هذا الوصف من وصف الله عز وجل لهم بأنهم رحماء بينهم، قال عز وجل:" مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا" (29/الفتح). وأين قول الصدر من قول الله تعالى عنهم:" قَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)" (سورة الفتح)، ومن أصدق من الله قيلا. ويقول الصدر عن أبي بكر رضي الله عنه: "فلا غرابة في أن ينتزع من أهل البيت أموالهم المهمة ليركز بذلك حكومته، أو أن يخشى من علي عليه السلام أن يصرف حاصلات فدك وغير فدك على الدعوة إلى نفسه. وكيف نستغرب ذلك من رجل كالصديق وهو الذي قد اتخذ المال وسيلة من وسائل الأغراء، واكتساب الأصوات" (ص 89). قلت الذي يبين حقائق الناس في المال أمران: مستوى رفاهية الرجل وطريقته في العيش، والمال الذي يخلفه لوارثه بعد أن يغادر الحياة، فإذا كان يعيش حياة بذخ وإسراف وخلف مالا عظيما لوارثه علمنا أنه جماع للمال محب له حتى وإن حاول إخفاء ذلك، أما إذا كان زاهدا في حياته ينفق كما ينفق آحاد الناس ولم يخلف مالا لوارثه علمنا أنه من الزاهدين في المال ممن لا تعنيه الدنيا. والآن لننظر كيف كان يعيش أبو بكر رضي الله عنه وماذا خلف لورثته، روى ابن سعد في كتابه الطبقات الكبرى قال: أخبرنا يعلى ومحمد ابنا عبيد قالا: أخبرنا موسى الجهني عن أبي بكر بن حفص بن عمر قال: جاءت عائشة إلى أبي بكر وهو يعالج ما يعالج الميت ونفسه في صدره فتمثلت هذا البيت: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر فنظر إليها كالغضبان، ثم قال: ليس كذلك يا أم المؤمنين ولكن وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد، إني قد كنت نحلتك حائطا وإن في نفسي منه شيئا فرديه إلى الميراث، قالت: نعم فرددته، فقال: أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارا ولا درهما ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح وجرد هذه القطيفة فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر وأبرئي منهن، ففعلت، فلما جاء الرسول عمر بكى حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض، ويقول: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده، رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده، يا غلام ارفعهن. فقال عبد الرحمن بن عوف: سبحان الله تسلب عيال أبي بكر عبدا حبشيا وبعيرا ناضحا وجرد قطيفة ثمن خمسة الدراهم؟ قال: فما تأمر؟ قال: تردهن على عياله فقال: لا والذي بعث محمدا بالحق، أو كما حلف، لا يكون هذا في ولايتي أبدا ولا خرج أبو بكر منهن عند الموت وأردهن أنا على عياله، الموت أقرب من ذلك (3/196-197). والصدر يرى أن سياسة أبي بكر في الحكم كانت إلغاء امتياز الهاشميين وإقصاءهم عن السلطة، يقول الصدر: "ونستطيع أن نصف هذه السياسة بأنها تهدف إلى إلغاء امتياز البيت الهاشمي، وإبعاد أنصاره والمخلصين له عن المرافق الهامة في جهاز الحكومة الإسلامية يومئذ وتجريده عما له من الشأن والمقام الرفيع في الذهنية الإسلامية. وقد يعزز هذا الرأي عدة ظواهر تاريخية: (الأولى)، سيرة الخليفة وأصحابه مع علي التي بلغت من الشدة أن عمر هدد بحرق بينه وإن كانت فاطمة فيه، ومعنى هذا إعلان أن فاطمة وغير فاطمة من آلها ليس لهم حرمة تمنعهم عن أن يتخذ معهم نفس الطريقة التي سار عليها مع سعد بن عبادة حين أمر الناس بقتله" (92). ويتهم الصدر أبا بكر بالخيانة السافرة والعبث بكرامة القانون، يقول: "ولما اختمرت الفكرة في ذهن فاطمة اندفعت لتصحح أوضاع الساعة وتمسح عن الحكم الإسلامي الذي وضعت قاعدته الأولى في السقيفة الوحل الذي تلطخ به، عن طريق اتهام الخليفة الحاكم بالخيانة السافرة، والعبث بكرامة القانون، واتهام نتائج المعركة الانتخابية التي خرج منها أبو بكر خليفة بمخالفة الكتاب والصواب" (ص 114). والصدر يتهم أبابكر بالجبن والفرار من الزحف وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، يقول في ذلك: "اقرأ حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتاريخ الجهاد النبوي، فسوف ترى أن عليا هو الذي أدهش الأرض والسماء بمواساته * (1)، وأن الصديق رضي عنه الله هو الذي التجأ إلى مركز القيادة العليا الذي كان محاطا بعدة من أبطال الأنصار لحمايته (2) حتى يطمئن بذلك عن غوائل الحرب، وهو الذي فر يوم احد، كما فر الفاروق ولم يبايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الموت في تلك الساعة الرهيبة التي قل فيها الناصر وتضعضعت راية السماء. ثم حدثني عن حياة الصديق (رضي الله تعالى عنه) أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهل تجد فيها إلا تخاذلا وضعفا في الحياة المبدئية، والحياة العسكرية، يظهر تارة في التجائه إلى العريش، وأخرى في فراره يوم احد وهزيمته في غزوة حنين، وتلكئه عن الواجب حينما أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج تحت راية أسامة للغزو، مرة أخرى في هزيمته يوم خيبر حينما بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاحتلال الوكر اليهودي على رأس جيش فرجع فارا ثم أرسل الفاروق (رضي الله تعالى عنه)، وإذا به من طراز صاحبه حيث تبخرت في ذلك الموقف الرهيب حماسة عمر وبطولته الرائعة في أيام السلم التي اعتز بها الإسلام يوم أسلم كما يقولون" (ص 129-130). هذا أبو بكر وهذا عمر رضي الله عنهما كما يتصورهما محمد باقر الصدر خائنان متآمران مرتدان جبانان فرا من الزحف متعطشان للسلطة ومن أجلها تآمرا على المسلمين واغتصبا الخلافة وردا النصوص، ومع ذلك فالصدر يترضى عنهما فأي ترض هذا! ألا كف عنهما باطله وافتراءاته بدلا من خداع القارئ بالترضي عنهما. والصدر في كتابه فدك يفترض الافتراض ثم يعتبره حقيقة فيفسر به الأحداث، ولا يجد مانعا من افتراء الكذب، كزعمه بأن أبا بكر وعمر فرا يوم أحد و يوم خيبر، مع أن اليهود كانوا محصورين في حصونهم في خيبر، وكان المسلمون يغادونهم القتال، فإذا جاء المساء رجعوا إلى معسكرهم. حينما قرأت كتاب فدك أشفقت على الشاب الشيعي الذي وضع ثقته في الصدر، فيقرأ هذا الكتاب فيخرج بصورة مشوهة دنسة عن بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عنهم فيتحطم في ذهنه المثال، فلا هو يتعلم الحق ولا يجد الطريق إليه.