الفكر الإسلامي محصلة حضارية بنيت على اركان العقيدة الإسلامية التي جعلها الله دينه الخاتم وبعث خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم. وفكرة التسامح مبدأ قرآني تجلى في الكتاب العزيز وأتم بيانه الهدى النبوي، وهدفنا الذي نرمي اليه: - أن نقنع المسلم بأنه يعتنق اكمل الأديان وأعدلها، وأن مبادئ هذا الدين وأحكامه وقيمه هي المبادئ السليمة الكفيلة بإسعاد الفرد والمجتمع. - أن يقتنع غير المسلم بهذا المعنى نفسه حتى لا يتصور الإسلام دعوة عصبية او قاصرة عما يكفل الحياة السعيدة للناس، وأن يعرف ان ما جاء به الإسلام انما هو برنامج عمل اصلاحي للبشرية كافة قال الله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، وانه ينظر إلى مخالفيه نظرة قوامها البر والتسامح. وحديثنا عن التسامح والوسطية في القرآن يشكل مرتكز خصائص الأمة الإسلامية، قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) والامة الوسط هي التي بلغت الذرى في الشرف والصدق والاعتدال. وجاء في القرآن الكريم الحديث عن التسامح والوسطية في العقيدة، قال تعالى: (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد) وقال تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا)، وقال تعالى (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون). وجاء في القرآن الكريم الحديث عن التسامح والوسطية في العبادة، قال تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) وجاء في القرآن الكريم الحديث عن التسامح والوسطية في القيم والسلوك قال تعالى: (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير يا بني أقم الصلاة وامر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير)، وقال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً). وجاء في القرآن الكريم الحديث عن التسامح والوسطية في المعاملة قال تعالى: (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم)، وقال تعالى: (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون). وجاء في القرآن الكريم الأمر بالتوازن والاعتدال، قال تعالى في وصف عباد الرحمن: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً) وقال تعالى: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً). وجاء في القرآن الكريم الحديث عن التسامح والوسطية في المنهج والتزام الطريق السوي قال تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)، وقال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون). وجاء في القرآن الكريم الحديث عن التسامح والوسطية في الصلح، قال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين). إذن فالتسامح والوسطية يمثلان منهجاً شاملاً متكاملاً في العقيدة والعبادة والقيم والسلوك والمعاملة والتفاعل الحضاري. وأول مدخل لهذا التسامح والوسطية تسامح في العقيدة المتفقة مع الفطرة فإن الله جل وعلا فطر الناس على سلامة المعتقد المتفقة مع سلامة الفطرة، قال تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون). فالناس قد فطروا على الحنيفية السمحة، قال تعالى في الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين فحرموا عليهم ما أحللت لهم وأحلوا لهم ما حرمت عليهم) وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). وهذه الفطرة التي فطر الخلق عليها لا تستقيم وحدها بمعرفة الحق من الباطل والخير من الشر، والحسن من القبيح، والنافع من الضار، والهدى من الضلال، ولهذا بعث الله الرسل، وانزل عليهم الكتب، وشرع الشرائع لتستقيم الفطرة على منهج الله تعالي، وجعل من المعالم التي تتأسس بها على الفطرة ان انزل الله تعالى كتابين كتاب مسطورا وهو القرآن الكريم وكتاب منشورا وهو هذا الكون، ولذلك جاء في قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون) وفي الكتاب المنظور قوله تعالى: (أم من خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم ان تنبتوا شجرها أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون أم من يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين). وأيضاً ففي الإسلام التسامح في الشعائر التعبدية ومبدأ التلازم بين الظاهر والباطن وبين العقل والقلب وحركات البدن فالصلاة فيها حركات تتصل بالبدن من القيام والركوع والسجود والجلوس، وفيها أعمال قلبية من خشوع واستشعار لعظمة الله، وللعقل التدبير والتفكر والخشية والرغبة والرهبة والانابة، فالتسامح توافق الظاهر مع الباطن، ثم يأتي التسامح في السلوك الإنساني بين حظ الدنيا والآخرة قال تعالى: (ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك)، وجاء في الأثر (اعمل لدنياك حتى تعيش أبداً واعمل لأخرتك كأنك تموت غداً) وصح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم قوله "ان لربك عليك حقاً ولبدنك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعطي كل ذي حق حقه" فالإنسان يتكون من جسد وعقل وروح ومشاعر وشعور وعواطف مطلوب أن يغذي العقل بالعلم والمعرفة والثقافة وان يغذي الروح بالتزكية وان يغذي البدن بالغذاء وبالماء والهواء والنشاط والرياضة فالتسامح في الإسلام يلبي كل هذه الجوانب ويحقق هذه الرغبات ويفي بكل هذه المتطلبات. ويأتي التسامح والوسطية في الدعوة فهو يقوم على مبدأين التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة، وهذا ينبني على أصل عظيم عندما بعث المصطفى صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما إلى اليمن قال: بشرا ولا تنفرا ويسرى ولا تعسرا"، وقال عليه السلام "إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، وإنما بعثني معلماً ميسراً". وقد قال الإمام الجليل سفيان الثوري بشأن التيسير في الفتوى، إنما الفقه الرخصة من الثقة، أما التشديد فيحسنه كل احد، ولقد كان دور النبي صلى الله عليه وسلم أن يضع عن الأمة الأصار والأغلال، ولهذا اثنى الله على اتباع هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون). فعمل الرسول صلى الله عليه وسلم على التيسير بالفتوى ليبقى الإنسان في إطار المشروعية الدينية فالتيسير في الفتوى والبشارة في الدعوة، لأن البشارة جزء من مدلول الرحمة التي وسعت كل الخلق مؤمناً كان تابعاً لمحمد صلى الله عليه وسلم أو مسالماً مهادناً، أو مداجياً مخالفاً، وسواء كان جماداً أصم أو حيواناً اعجم، أو نبتاً اخضر وسعتهم هذه الرحمة، ولذلك من صور تبشير الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يدخل في الصلاة ويريد اطالة القراءة فيسمع بكاء الصبي فيوجز في الصلاة مخالفة أن تفتتن أمه. والتسامح والوسطية في التجديد والاجتهاد يقوم على ركنين: اعتماد الأصول، واتصال بالعصر، أما الاعتماد على الأصل فنحن نعتمد على الشرعية التي تقوم على الثوابت الكبرى وهي حفظ الضروريات الست: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ العرض، وحفظ العقل، وحفظ المال، والمحافظة على قطعيات الشريعة وأحكامها، وعلى الفرائض وعلى القيم الأخلاقية، وشريعة الإسلام قد اتسعت في كل عصر وزمان عبر آله الاجتهاد والتجديد، ولهذا قال فقهاؤنا في باب التسامح أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأعراف، فهذان أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا الإمام أبو حنيفة قد خالفوا إمامهم في كم هائل من مسائل الفقه، وقالا: لو رأى إمامنا ما رأينا لغير رأيه بناء على ما طرأ من تغير الزمان والمكان وتطور في مسيرة الحياة. وهذا الإمام محمد بن إدريس الشافعي أثر عنه المذهب القديم لما كان في العراق، ولما تحول إلى مصر دون مذهبه الجديد بناء على تغير الأحوال والأعراف. وهذا الإمام أحمد بن حنبل نقل عنه أكثر من رواية في المسائلة الواحدة إما لنص علمه أو لمصلحة رآها، وهذا الإمام ابن تيمية أخذ بأصول الإمام أحمد بن حنبل ومع هذا فله آراء واجتهادات وفتاوى تجاوزت مذهب الإمام أحمد بل ربما تجاوزت المذاهب الأربعة. وإذن فأعمال الاجتهاد والتجديد ضرورة ملحة لاستيعاب قضايا العصر ومتطلبات الحياة، من خلال الثبات على مقاصد الشريعة وقواعدها العامة ومبادئها الكلية مع المرونة في الوسائل ودقة الفهم وادراك المصلحة. ويأتي هنا الحديث عن التسامح والوسطية في الأحكام تعظيم الأصول وتيسير الفروع، لأن تعظيم الأصول يندرج تحت قوله تعالى: (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)، وقال تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) ، وقال صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: إيمان بالله ورسوله والصلاة الخمس وصيام رمضان وأداء الزكاة وحج البيت". وهذا يقتضي أن من يتصدى للفتوى في قضية الأحكام أن يكون لديه الأهلية في العلم والفهم والادراك، قال تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب)، وقال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)، وقال تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم)، وجاء التوجيه الإلهي للمصطفى عليه السلام عند الدعاء (وقل ربي زدني علماً). ولكن ويا للأسف نعيش اليوم في عصرنا مع شباب حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام لم يأخذوا العلم عن الثقات ولا عن مصادره الأصلية ولم يستمعوا لقول الله تعالى: (فسالوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، كما أن هؤلاء لم يرجعوا إلى الراسخين في العلم وإنما قرأوا بضع آيات أو جملة أحاديث ثم نصبوا أنفسهم للافتاء فاخذوا يكفرون الأمة ويفسقونها ويجهلون العلماء ويسفهونهم ويخوضون في أعراضهم ويسعى هؤلاء الشباب في تضليل الناس ووصفهم بالابتداع، ويصدرون من الفتاوى ما يؤدي إلى الفتنة والبلبلة والاضطراب ويخوضون في القضايا الكبرى للأمة ومصالحها العليا، وهذا من الفتن العظيمة ومن الشر المستطير. ولهذا فيجب على العلماء وأولي الأمر والرأي أن يتصدوا لهؤلاء ويبعدونهم عن الساحة ليسلم الناس من هذا الهراء بحيث لا يتصدى للفتوى إلا الراسخون في العلم، ومن وهبهم الله فهما دقيقاً وفقهاً عميقاً، ولهذا قال الإمام مالك على ما هو عليه من وعي وفهم وعلم إذا افتى في مسألة (إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) وهذا من تمام الأدب مع الله تبارك وتعالى وتواضع العلماء وشعورهم بثقل الأمانة وخطورة المسؤولية، وكان الإمام الشعبي وهو من الأئمة الاعلام في العراق يسأل عن المسألة فيقول: لا أدري، فيقال له: كيف تقول لا أدري وأنت الإمام والقدوة، فقال رحمه الله: لقد قالت الملائكة من قبلي تخاطب الباري جل وعلا: (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم). وقد قال الصحابي الجليل ابن مسعود رضي الله عنه "إن أحدكم ليفتي الفتوى وهي من القضايا التي لو سأل عنها الخليفة عمر لجمع لها أهل بدر فأجرى الناس على الفتوى أجراهم على النار". ولهذا نرى ان الصيغة المثلى في علاج قضايا الأمة وحل مشكلاتها إنما تتحقق بالاجتهاد الجماعي الذي يجمع بين فقهاء الشرع وخبراء العصر؛ لأن الفقهاء يعلمون النصوص ومدلولاتها ومقاصدها والخبراء يعرفون الواقع ومآلاته وتحدياته، والحكم الشرعي مركب من العلم بالنصوص والعلم بالواقع، فالاجتهاد الجماعي أقرب إلى السداد وأبعد عن الخلاف في مثل هذه القضايا. وإذن فلابد من الحكمة عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنظر في مجريات الأمور، وما ينشأ عن هذا الأمر من تحقيق المصالح ودفع المفاسد، ولابد من الموازنة بين الخير والشر، وما يترتب عليه من أثر فإذا كانت المفاسد المرتبة على التغير أكثر فلا يجوز الإنكار، وإذا كانت المصالح أكبر وأرجح فلابد من الإنكار فهذا يدركه أهل النظر والوعي وأهل الحكمة وأولي الأمر الذين يقدرون المفاسد ويدركون المصالح. وهذا يتمثل فيما قاله الإمام سفيان الثوري رحمه الله: لابد لمن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر أن يتحقق فيه ثلاث: أن يكون عالماً بما يأمر به، عالماً بما ينهي عنه، عدلاً فيما يأمر به، عدلاً فيما ينهي عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهي عنه. وقد أثر عن الإمام الجليل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رضي الله عنه، أنه مر مع أصحابه على أناس من التتار الذين غزوا بلاد الشام وكانوا سكارى فأراد من كان مع الإمام التغيير عليهم فنهاهم الإمام؛ لأن أمامه مفسدتان: مفسدة شرب الخمر، وهي منكر، غير أنها جريمة قاصرة، والمفسدة الثانية قتل المسلمين وإزهاق أرواحهم وسفك دمائهم، ولهذا قال الإمام الجليل دعوهم، إنما نهى الله عن الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء إنما تصدهم الخمر عن قتل المسلمين وإراقة دمائهم، ولزوال الدنيا بأسرها أهون على الله من إراقة دم مسلم بغير حق. أما ما يتعلق بالتسامح والوسطية في التفاعل الحضاري فنحن أمة نعيش ضمن قرية كونية سقطت فيها حواجز الزمان والمكان، وليس لنا من سبيل أن ننكفئ على أنفسنا أو نتقوقع على ذاتنا حيث لابد من تبادل المنافع ورعاية المصالح ولابد لأمة الإسلام أن تمد الجسور مع الآخرين من غير أن تذوب شخصيتنا وخصوصية حضارية من غير انطواء أي أن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها وممن جاء بها. والحضارات تتقاسم أقدار من القيم، ولهذا لابد أن نأخذ بالنافع المفيد من اللباب والجوهر، ونعرض عن القشور وما يتنافى مع أخلاقنا وقيمنا فقد اتصل المسلمون في صدر الإسلام وفي القرون الأولى بالدول المجاورة وفتحوا نوافذهم على الأمم من حولهم واستقبلوا الكتب وقاموا بالترجمة ونشر المسلمون علومهم في شتى المعارف والثقافات حتى وصلوا بهذا عن طريق الأندلس إلى بلاد أوروبا كفرنسا وغيرها، ولهذا حدث التفاعل الإيجابي بين المسلمين وغيرهم من الروم وفارس ومن الأوروبيين وغيرهم. فأمة الإسلام وهي تعيش في هذا المنتدى البشري الذي نبحث عن شراكة إنسانية يتجلى فيها التفاعل وحوار الحضارات والأخذ بالجديد المفيد على الاخوة الإنسانية والكرامة الآدمية وعلى التبادل العادل للمصالح وعلى الحق والعدل، ولقد قال الخليفة الراشد علي رضي الله عنه لوالية على مصر "الناس صنفان إما أخ لك في الإسلام وإما نظير لك في الخلق أخوك في الإنسانية يفرط منه الخطأ والزلل وتغلب عليهم العلل ويؤتي على أيديهم من العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثلما تحب أن يعطيك الله من العفو والصفح فإنك فوقه ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاك". إذن فهذه قاعدة التفاعل الحضاري نرعى المنافع ونتبادل المصالح لتحقيق السلم والأمن بين الشعوب في ظل موازين لا تختل فيها قيم العدالة أو الكيل بمكيالين وإنما نلتزم العدل، كما قال تعالى: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون)، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى)، وقال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)، والبر أرقى أنواع الإكرام والاحترام، والقسط قمة العدالة والإنصاف. فهذا جماع أمر التسامح والوسطية: تسامح في العقيدة المتفقة مع الفطرة، تسامح الشعائر الدافعة للعمارة والتقدم، تسامح الاجتهاد والتجديد الذي يرتبط بالأصل ويتصل العصر، تسامح الأحكام التي تتمسك بالأصول وتعظمها وتيسر الفروع، تسامح الدعوة التي تقوم على التيسير في الفروع والتبشير في الدعوة، وهذا التسامح الذي جسده بكماله وتمامه وشموله وعظمته نبينا وإمامنا خاتم الأنبياء والمرسلين وسيد العالمين هادي البشرية إلى الرشد وداعي الخلق إلى الحق، ومخرج الناس من الظلمات إلى النور، البشير النذير والسراج المنير، المبعوث رحمة للعالمين صاحب اللواء المعقود، والمقام المحمود والحوض المورود نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي جمع الله له ذرى الكمال البشري الذي لم يتح لأحد سواه، فبعد هذا التسامح والمثالية والسمو والرقي في المنهج والنظام يأتي أهمية بيان هذا الموضوع في زمن يتعرض فيه الإسلام إلى هجمة منظمة وشرسة من قبل أعداء الإسلام، ومما زاد الطين بلة ان المسلمين أنفسهم مع الأسف في صراعات وخلافات مذهبية فكل باسط ذراعيه يدعي انه هو صاحب الحق، وكل يرى نفسه المحق وان الجنة له ولأصحابه، وان البقية هم أصحاب النار. @ أستاذ الدراسات العليا، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية