الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    فرصة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «آثارنا حضارة تدلّ علينا»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أرصدة مشبوهة !    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إطلالة على الزمن القديم    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    فعل لا رد فعل    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    «إِلْهِي الكلب بعظمة»!    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المرور»: الجوال يتصدّر مسببات الحوادث بالمدينة    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هامش الحرية ومقصد النبوة

قرأت شيئا من الحوار الدائر بين الأصدقاء الثلاثة – رعاهم الله- نواف القديمي وفهد العجلان وإبراهيم السكران، حول حرية التعبير في المجتمع، وكان مبعث الحوار مقال الأخ الصديق نواف عن فتوى سماحة الشيخ عبدالرحمن البراك حفظه الله في خالص جلبي، وقد رد عليه الأخ الصديق فهد العجلان ثم رد عليه ردا مطولا الأخ الصديق إبراهيم السكران.
والثلاثة جميعهم ذوو خلق كريم وفضل، وأحسب أن كلا منهم يبتغي الحق فاسأل الله أن يجزي الجميع أجر المجتهد وأن يغفر للمخطئ خطأه. ولأهمية الموضوع أحببت أن أشارك فلعل المشاركات المتوافرة تثريه وتبلغ بنا الصواب فيه.
وحديثي سوف يكون في ثلاثة أقسام:
1 فتوى سماحة الشيخ عبدالرحمن البراك
2 مبدأ حرية التعبير
3 نظرية هامش الحرية
أولا: فتوى سماحة الشيخ عبدالرحمن البراك
أبدأ الموضوع بالحديث عن فتوى سماحة الشيخ عبدالرحمن البراك أيده الله وسدده وعلاقتها بحرية التعبير، وما كتبه أخي الأستاذ نواف في ردها بحجة هامش حرية التعبير الواسع في عصر النبوة كما قال.
وأوجز قولي في نقاط:
أدوات الفهم: يظهر لي أن مصطلح حرية التعبير مصطلح حادث ولا أظنه موجودا في تراثنا الفقهي، ومحاولة فهم أحداث السيرة أو القرآن والسنة من خلال هذا المصطلح لن يؤدي بنا إلى مخرجات سليمة لأنه سوف يصطدم بمفاهيم وأدوات أخرى ليست على وفاق مع هذا المصطلح، والأولى دراسة الحدث بالأدوات التي كان يستخدمها علماؤنا رحمهم الله في دراسة النصوص.
إن تلك المفاهيم أعني المفاهيم الشرعية الواردة في الفقه وأصوله منسجمة مع بعضها البعض فهي بمثابة الآلة التي تعمل أجزاؤها متسقة مع بعضها البعض من غير تعارض بينها ولا تناقض، وإذا استخدمنا مفاهيم غريبة عنها فسوف يفضي بنا إلى التعارض والتناقض والبعد عن غاية الشريعة ومقاصدها.
مثلا مبدأ حرية التعبير قد يتعارض أحيانا مع مقصد حفظ الدين وبيانه للناس الذي بعث الله به رسله. قال تعالى:" كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ" (30/الرعد)، وقال:" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ" (70 /غافر)، وقوله:" هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" (2/ الجمعة).
والأستاذ نواف وقع في التناقض الذي استدركه عليه الأخوان الكريمان فهد وإبراهيم، فهو يرى أن هامش الحرية في المجتمع المسلم يتسع للمز الرسول صلى الله عليه وسلم وإيذائه ووصفه بالتجسس، ثم يقول للمجتمع أن يتخذ من التشريعات ما يمنع مثل هذه التعديات.
وهذا تناقض، فإذا كانت هذه الحرية مما أذنت بها الشريعة الإسلامية فكيف نقول للدولة أن تشرع ما يحد ما أذنت به الشريعة. وسبب تناقض الأستاذ نواف هو استخدام أدوات ومفاهيم في فهم النص الشرعي غريبة عليه. ومع أن الأستاذ نواف يشكر على تنبيهه على هذا الاستثناء، إلا أنه لا يعفيه من التناقض.
هل يمكن رد فتوى البراك في خالص جلبي بمبدأ حرية التعبير؟ الجواب : لا، فحرية التعبير بمفهومها الغربي لا تمنع البراك من إبداء وجهة نظره في رأي معلن أو في قضية عامة، والاحتجاج عليه بحق حرية التعبير هو أقرب إلى البطلان منه إلى الحق. وكما كان من حق خالص جلبي أو غيره أن يعبر عن رأيه في قضية شرعية فمن حق من خالفه أن يعبر عن رأيه ويخالفه فيما قال وفقا لمبدأ حرية التعبير. هذا أولا، وثانيا: هل الاحتجاج بحرية التعبير ملزم للبراك؟ وأجيب بأنه غير ملزم له، لأنه لا يسلم بالدليل المحتج به وهو حرية التعبير.
فتوى البراك لا يمكن أن تناقش إلا بأدوات شرعية وهي القادرة على ردها إن كان ثمة خطأ. فالفتوى من باب إنكار المنكر ويمكن أن ترد بمبدأ المصلحة والمفسدة فينظر هل هناك مصلحة في دفع هذا المنكر وهو القول المنسوب لجلبي أم لا، فإن كان ثمة مصلحة راجحة فالفتوى سليمة وإن كانت المفسدة غالبة فالأولى عدم الفتوى. وقد قرر العلماء أن من شرط إنكار المنكر ألا يفضي إلى منكر أكبر.
ولهذا أرى أن يناقش مبدأ حرية التعبير في الدولة المسلمة بعيدا عن فتوى سماحة الشيخ عبدالرحمن لأن استحضار الفتوى في مناقشة هذا المفهوم قد لا تفيد طرفي النزاع، بل إن من دعا إلى التوسع في حرية التعبير يناقض نفسه إذا استحضر هذه الفتوى لردها لأنه يمنع مخالفه مما يدعو إليه.
ثانيا: مبدأ حرية التعبير
كثير ممن يتحدث في الشأن العام ينطلق من أصل تصوره هو، وعده أصلا في الشريعة ومقصدا من مقاصدها الأولى، وهذه الأصول التي وضعها أو استعارها من مصدر خارجي ربما وردت إشارة إليها في بعض نصوص الشريعة ولكن ليست هي المقدمة في الشأن العام وإنما هناك أصول أخرى تسبقها قررتها الشريعة تجب المحافظة عليها. ومن هذه الأصول التي يكثر الحديث عنها ويحتج بها "حرية التعبير"، وأتناوله في نقاط:
لا أعلم أنه ورد ذكر لهذا المصطلح بهذا اللفظ في تراثنا الفقهي، ومن اطلع على شيء ينقض ذلك فعليه أن يفيدنا به.
في الشريعة الإسلامية حرية التعبير ليست مرادة لذاتها وليس لها حكم واحد ينتظم مسائلها، فهي ليست محمودة بإطلاق. وهي محمودة مأجور صاحبها إذا كانت لبيان الحق، ومذمومة إذا كانت نصرة للباطل ودعوة إليه. ولهذا لم يرد هذا المصطلح "حرية التعبير" بإطلاق، وإنما ورد مقيدا ببيان الحق. وهذا من الفروق المهمة في مفهوم حرية التعبير بين التصور الإسلامي والتصور الغربي.
والأدلة على ذم حرية التعبير بإطلاق كثيرة ومنها ما رواه المغيرة بن شعبة وخرجه البخاري رحمه الله في صحيحه:" قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ"، صحيح البخارى [9 /33]، ومنها الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه وخرجه الإمام أحمد في مسنده، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَضِىَ لَكُمْ ثَلاَثاً وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثاً رَضِىَ لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَأَنْ تَنْصَحُوا لِمَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ »مسند أحمد [18 /483].
وفي الحديث الأخير وردت حرية التعبير محمودة في موضع بيان الحق وهو مناصحة من ولاه الله أمرنا ووردت مذمومة في موضع آخر وهو ما عبر عنه بقيل وقال وكثرة السؤال، وهو الحديث الذي لا فائدة منه والسؤال عما لا حاجة إليه فكيف بالحديث الذي يتضمن منكرا أو دعوة إلى منكر.
جاء في الشريعة الأمر ببيان الحق والصدع به بشروطه وذم الساكت عنه قال تعالى" لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79/المائدة)، وقال: "كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله"، وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو يذكر بعظيم فإنه لا يقرب من أجل ولا يبعد من رزق" (مجمع الزوائد).
القيمة الأولى في المجتمع المسلم ليست حرية التعبير وإنما هي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى:" الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور" (41/الحج). وهذه القضايا وأمثالها عبر عنها علماؤنا بحفظ الدين. ولعلك تلاحظ أخي القارئ أن مبدأ حرية التعبير بإطلاق لايتفق مع مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لعلك أخي القارئ تلاحظ أن بين القيم الثلاث اتساقا ولو أضفنا إليها حرية التعبير لوقع تناقض بين قيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين قيمة حرية التعبير ولكن لو تخلصنا من المصطلح الغربي وهو حرية التعبير ووضعنا بدله المصطلح الإسلامي وهو قول الحق لما كان هناك تناقض، وقول الحق أو بيان الحق متسق مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومتسق أيضا مع عبادة الله بالصلاة وأداء الزكاة (أو مع حفظ الدين).
وهذا يوضح لك ما ذكرته سابقا من أنه من الخطأ استعارة مفاهيم وأدوات فكرية من ثقافة مخالفة ومحاولة فهم الشريعة أو القرآن والسنة من خلالها وتنحية أصول الفقه جانبا فهذا يبعدنا عن فهم النص وتبدو لنا الشريعة غير معقولة المعنى، ويوقعنا في تناقض تبرأ منه الشريعة.
ثالثا: نظرية هامش الحرية
الأستاذ نواف وفقه الله حاول في نقضه لفتوى سماحة الشيخ البراك أن يؤسس لحرية التعبير في المجتمع المسلم، وأن يؤسس لما سماه "هامش الحرية"، ولكنه طرح إشكالية معقدة وهي تشبيه المخالفين في الرأي بالمنافقين في المجتمع المدني من حيث الأحكام ومعاملة المجتمع لهم، وعلى هذا التشبيه عدد من الاستدراكات. وقبل ذكر الاستدراكات لا بد أن أثني على إثارة الأخ نواف مسألة الحرية في المجتمع، ومحاولته تقديم رؤية فيها، وهذه الرؤية وإن كان عليها استدراكات ولها مخالفون إلا إنها حرية بإثارة التفكير فيها واستقطاب المهتمين ببحثها.
أما الاستدراكات التي أراها على ما طرحه فهي:
هل يمكن تشبيه الخلاف داخل المجتمع الآن بالخلاف بين المسلمين والمنافقين في مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وهل يرضى المخالفون في مجتمعنا بتشبيههم بالمنافقين ومن ثم تطبق عليهم أحكامهم ويعاملون كمعاملتهم كما يرى الأستاذ نواف؟
وإجابة على هذين السؤالين أقول: إن أصحاب الفكر المخالف يبحثون عن شرعية قانونية في المجتمع تحميهم من الإنكار عليهم ومنعهم من المخالفة الفكرية أو السلوكية، واستصحاب حكم المنافقين لتطبيقه عليهم لا يحقق لهم ذلك لأن المنافقين ليس لهم وجود قانوني في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم معدودون ضمن المسلمين ويطبق عليهم ما يطبق على المسلمين من أحكام. ولما أرادوا أن يكون لهم وجود قانوني بإنشاء مسجد خاص بهم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بهدمه وسمى ذلك المسجد مسجد ضرار، وأنزل فيه سبحانه آيات تتلى، قال تعالى: "وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" (110/التوبة).
وهذا الوجود القانوني الذي كان ممتنعا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هو الآن أشد امتناعا ذلك أنك لا تستطيع الآن وصف أحد بالنفاق، والناس يقبل منهم الظاهر والله سبحانه يتولى السرائر، ولو فتح هذا الباب لفتح باب شر عظيم. والناس كانوا يؤخذون بالوحي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده يؤخذون بما يظهرون من أعمالهم فمن أظهر خيرا ظن به الخير ومن أظهر سوءا ظن به السوء. وهذا ليس نفيا لوجود النفاق في مجتمعات المسلمين بل هو تنبيه إلى صعوبة الوصف به لأنه أمر قلبي لا يطلع عليه إلا الله سبحانه.
والجماعات الموجودة التي لها وجود قانوني في المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هي الجماعات المعلنة عن نفسها فاليهود مثلا كان وجودهم قانونيا بإعلانهم يهوديتهم ورفضهم الدخول في الإسلام ولهذا وقع معهم الرسول صلى الله عليه وسلم عهدا, وبجانب اليهود كانت هناك التجمعات القبلية المكونة للمسلمين، وهذه أيضا وقع معها الرسول صلى الله عليه وسلم عهدا، وقد ظهر هذا جليا فيما عرف بوثيقة المدينة.
أما المنافقون فكانوا مظهرين للإسلام داخلين في نظامه تجري عليهم أحكامه الظاهرة. نعم كان لهم وجود اجتماعي بمعنى أنهم كانوا موجودين في المجتمع ولكن هذا الوجود لم يكن معترفا به، وكانوا مطالبين بأحكام الإسلام الظاهرة، ومن انحرف عن شيء منها كان عرضة للعقوبة.
ووجودهم الاجتماعي كان له شيء من الاعتبار من حيث كونهم قوة اجتماعية تقتضي المصلحة مراعاتها، وكانت هذه المراعاة من طرف الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تكن نتيجة ميثاق معهم. وهذه المراعاة انتهت كما يقول ابن تيمية رحمه الله بعد نزول سورة التوبة، يقول ابن تيمية:" فلما أنزل الله تعالى براءة ونهاه عن الصلاة على المنافقين و القيام على قبورهم و أمره أن يجاهد الكفار و المنافقين و يغلظ عليهم نسخ جميع ما كان المنافقون يعاملون به من العفو، كما نسخ ما كان الكفار يعاملون به من الكف عمن سالم و لم يبق إلا إقامة الحدود و إعلاء كلمة الله في حق كل إنسان" (الصارم المسلول، ص 243).
أفعال الإنسان لا تخرج عن الأحكام التكليفية الخمسة (الواجب والمستحب والمباح والمكروه والمحرم)، فالمسلم مثلا يحرم عليه أكل لحم الخنزير بينما الكتابي يجوز له في المجتمع المسلم ذلك لأنه مما أقره دينه. وكل جماعة داخل المجتمع المسلم لها وجود قانوني يجوز لها بحكم العهد أن تمارس دينها داخل جماعتها، مما لا يتعدى ضرره إلى المجتمع المسلم، فالمجوسي مثلا يجوز له ممارسة عبادته في معبده والكتابي يجوز له ضرب الناقوس داخل كنيسته.
أما الأفعال الصادرة من المنافقين حسب نظرية هامش الحرية فلا ندري ما صفتها: هل تلحق بالأفعال الصادرة من أهل العهد فيكون مأذونا بها وتأخذ حكم الإباحة، أم تلحق بالأفعال الصادرة من المسلمين فتكون من المنكر المنهي عنه. ويمنع من الاحتمال الأول أن المنافقين ليس لهم وجود قانوني كما أسلفت فهم جماعة من المسلمين في الظاهر. وأفعال المسلمين إما أن تكون من المعروف ومن الصالحات فيتواصون بها ويؤجرون عليها أو تكون من المنكر فيتناهون عنها. ويمنع من الاحتمال الثاني أنه يفتح الباب لإنكارها والمؤاخذة بها، وهذا مسقط لنظرية هامش الحرية بالكلية حتى لو صنفناها ضمن العفو الذي يغفره الله كما في قوله تعالى:" الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ (32/ النجم)، إن تصنيفها ضمن ذلك يفتح الباب لإنكارها ، وإذا وقع الإنكار سقطت النظرية.
والنظرية لا تستقيم معنا إلا إذا صنفنا أفعال المنافقين ضمن أفعال أصحاب أهل العهد فتكون من المباح المأذون به ولكن هذا لا يخلو من إشكالات كما سبق. ومبعث الإشكال هو في عدم وجود فئة منحازة عن المجتمع المسلم فيعرف صدور الفعل منها، والنفاق كما هو معلوم أمر قلبي يمكن أن يقع من كل أحد. وأيا ما كان الأمر فبناء على ما قرره الأستاذ نواف في نظريته عن هامش الحرية يتوقع من كل مسلم أن يمارس أيا من تلك القائمة الطويلة من الأفعال التي مارسها المنافقون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من غير نكير من أحد.
وهذه قائمة ببعض الأفعال التي ذكرها الأستاذ نواف:
"كان المنافقون يعيشون في ثنايا المجتمع المسلم، ووسط جموع الصحابة رضوان الله عليهم، وبين يدي رسول الله، ومع ذلك كانوا يصفون الصحابة بالسفهاء
وكانوا يحرِّضون الكفار على مُجتمعهم، ويدعونهم لحرب المسلمين
وكانوا يكذبون على الله ورسوله
وكانوا يلمِزون الرسول عليه الصلاة والسلام
وكانوا يؤذون النبي ويصفونه بالتجسس
وكانوا يُظهرون البغضاء للمؤمنين
وكانوا يصدون عن رسول الله ويستكبرون عليه
وكانوا يتآمرون على رسول الله
بل ويكفُرُون بموعود الله وحديث رسوله
وكانوا يخذِلون المُجتمع المسلم في أحلك ظروفه وأزماتِه
وكانوا أشحة على الخير، ويقذفون الصحابة بألسنة حِداد" (من مقال: على هامش فتوى البراك في خالص جلبي).
هذه بعض أفعال المنافقين، وفي ظل غياب جماعة مشخصة مستقلة بوصف عن المجتمع المسلم تقع منها هذه الأفعال يصبح لكل فرد في المجتمع المسلم - من ناحية نظرية - إمكانية ممارسة هذه الأفعال، ولا يحق لأحد منعه بغض النظر عن تصنيفها هل هي من المأذون به فتكون من المباح أو من المنكر المعفو عنه. وهذا كما ترى يفتح الباب واسعا لمخالفة الشريعة ويتعارض تماما مع مقاصدها التي بعث الله الأنبياء لتحقيقها، بل إنه لا تقوم للدين معه قائمة. الله سبحانه بعث الأنبياء ليعبد وحده وليظهر دينه على الدين كله ولإقامة العدل بين الناس، وما تضمنته نظرية هامش الحرية إمكانية مخالفة ذلك من غير نكير على المخالف. قال تعالى في الغاية من بعث رسله:" وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ" (64/ النساء)، وقال: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25/ الحديد)، وقال: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" (9/ الصف).
أما قول الأستاذ نواف في مقاله: (هامش الحرية والورطة أمام النص الشرعي):" فأنا لم أقل في مقالي: لنسمح بنشر الكفر في المجتمع المسلم!! .. بل كنت أشرت سابقاً في غير موضع إلى أهمية تشريع قوانين تمنع المسّ بعقائد الناس أو التجريح بمقدساتهم"، هذا الاستثناء لا يقبل بناء على نظرية الأستاذ نواف لثلاثة أمور:
الأول: نظرية الأستاذ نواف قضت على المجتمع المسلم الذي يستطيع أن يضع مثل هذه القوانين، فأفراده يمكن أن تقع منهم كل تلك الموبقات التي ذكرها الأخ نواف من غير إنكار عليهم.
والثاني: ما أباحته الشريعة أو تسامحت فيه فلم ترتب عليه عقوبة لا يجوز لأحد أن يمنعه منعا مطلقا أو يرتب عليه عقوبة، ومن فعل كان ظالما ويجب الإنكار عليه. والأستاذ نواف قرر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعاقب المنافقين على فعلهم، وعلى هذا فتشريع عقوبة على أفعال مماثلة أو منع أفعال لم يمنعها صلى الله عليه وسلم يعد افتئاتا على الدين وزيادة لم يأذن بها الله.
والثالث: تشريع القوانين المانعة يلغي هامش الحرية الذي تحدث عنه الأستاذ نواف ومن ثم تسقط النظرية، وحينئذ لا قيمة للحديث عن هامش الحرية.
يدعي الأستاذ نواف أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعاقب على قائمة أفعال المنافقين التي سردها، وهذا لا يسلم له إذ يكفي أن يعاقب على الفعل ولو مرة واحدة ليعلم أنه مما يعاقب عليه، أما تخلف العقوبة عن بعض الأفعال، فهذا لا يلغي صفة الفعل ولكن يجعلنا نبحث في سبب التخلف، ومن المعلوم أن العقوبات تتخلف عن الجنايات إما لعدم اكتمال الشروط أو مراعاة للمصلحة ودفعا للمفسدة.
والعقوبات والإنكار على المنافقين تكرر في السيرة مرات، ولكن ربما بسبب عدم بحث الأستاذ نواف في السنة واقتصاره على القرآن فقط خفي عليه ذلك. مثلا من الأفعال التي أوردها الأستاذ نواف سب الرسول صلى الله عليه وسلم وإيذاؤه، وقد أورد ابن تيمية رحمه الله في كتابه الصارم المسلول اثني عشر حديثا تضمنت اثنتي عشرة حادثة كلها وقع فيها عقاب الساب، ومنها حديث الأعمى الذي كانت له أم ولد فقتلها لأنها كانت تسب الرسول فأهدر صلى الله عليه وسلم دمها، وقد روى الحديث أبو داود والنسائي.
يرى ابن تيمية أن التعامل مع المنافقين مر بمرحلتين مرحلة كان فيها الرسول صلى الله عليه وسلم يعاملهم بالعفو ثم نسخ ذلك بعد نزول سورة براءة، يقول ابن تيمية:
"فلما أنزل الله تعالى براءة و نهاه عن الصلاة على المنافقين و القيام على قبورهم و أمره أن يجاهد الكفار و المنافقين و يغلظ عليهم نسخ جميع ما كان المنافقون يعاملون به من العفو كما نسخ ما كان الكفار يعاملون به من الكف عمن سالم و لم يبق إلا إقامة الحدود و إعلاء كلمة الله في حق كل إنسان" (الصارم المسلول، ص 243).
ثم ذكر أن من العلماء من يسمي ذلك نسخا، ومنهم لا يسميه نسخا، وأن الحكم باق ما بقيت الحاجة إليه، يقول في ذلك:
"ثم إن من يسمي ذلك نسخا لتغيير الحكم و منهم من لا يسميه نسخا لأن الله أمرهم بالصفح و العفو إلى أن يأتي بأمره و قد أتى الله بأمره من عز الإسلام و إظهاره و الأمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
وهذا مثل قوله تعالى: {فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} [النساء: 15]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [قد جعل الله لهن سبيلا]، فبعض الناس يسمي ذلك نسخا، وبعضهم لا يسميه نسخا والخلاف لفظي.
ومن الناس من يقول: الأمر بالصفح باق عند الحاجة إليه بضعف المسلم عن القتال بأن يكون في وقت أو مكان لا يتمكن منه، وذلك لا يكون منسوخا إذ المنسوخ ما ارتفع في جميع الأزمنة المستقبلة.
وبالجملة، فلا خلاف أن النبي صلى الله عليه و سلم كان مفروضا عليه لما قوي أن يترك ما كان يعامل به أهل الكتاب و المشركين ومظهري النفاق من العفو و الصفح إلى قتالهم و إقامة الحدود عليهم سمي نسخا أو لم يسم" (الصارم المسلول، ص 245).
وأخيرا أرجو أن يتسع صدر أخي نواف لما كتبت فما علمته إلا كريم الخلق طالبا للحق، كما أرجو أن يكون فيه شحذ لأذهان المهتمين في تناول هذا الموضوع المهم وإثرائه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.