قبل أسابيع هبطت مركبة كيوريوسيتي (حب الاستطلاع) الأمريكية على المريخ. كلّفت المركبة مليارين ونصف المليار من الدولارات وقطعت مئات ملايين الأميال في الفضاء، لكن الكلفة الحقيقية كانت الجهود الفكرية والتقنية المضنية التي استثمرتها العقول من أجل استطلاع آفاق الكون. ناطحة سحاب واحدة في إحدى مدن الخليج النفطية قد تكلِّف نفس سعر المركبة الأمريكية، لكنها بالكامل مستوردة من إنتاج عقول أخرى تمّت مقايضتها بأموال النفط، ولا تضيف أي إنجاز علمي أو حضاري للذين اشتروها. الصين كانت قبل خمسة عقود فقط دولة متخلّفة أهم صناعاتها الدراجات، والآن تخطِّط للهبوط على القمر في العام القادم. الهند بعدد سكانها الهائل وتخلُّفها المعيشي الكبير، أوجدت لنفسها قاعدة علمية وبحثية تنافس بها دول الصف الأول، وكذلك البرازيل وماليزيا وكوريا وإلى حد ما إيران، وهذه كلها كانت من دول العالم الثالث قبل ثلاثين سنة. يعيش اليوم في هذا العالم المتنافس على مصادر الحياة نوعان من العقليات، عقلية استكشافية للحياة وأخرى اكتفائية تستعد للموت. دعونا نأخذ مثالاً واحداً، وهو النفط لأنه المصدر الأول لحضورنا العالمي، لنتعرّف من خلاله على نوع العقلية التي تنتمي إليها دول مجلس التعاون الخليجي. المفترض أنه بعد سبعين سنة أو نحوها من الاعتماد المعيشي الكلي على النفط، أن يكون لدى دول الخليج العربي النفطية أفضل العقول والتقنيات والأبحاث العلمية في مجال النفط، وأنها تبيع خبراتها البحثية والتقنية في علوم وصناعات واقتصاديات النفط على العالم بأغلى الأثمان. لابد من أنّ المواطن الخليجي العاقل تلح عليه بعض الأسئلة عن المردود الفكري والابتكاري والتقني لعشرات السنين من تدفُّق الأموال النفطية على منطقة الخليج. الطرق والجسور وناطحات السحاب والأسواق المكيّفة والفنادق الراقية والمركبات الفخمة والأزياء والعطور العالمية، كلُّ هذه مجرّد مشتروات استهلاكية تمّت مقايضتها بأموال النفط. لكن ماذا عن المساهمات التي قدّمتها العقول الخليجية والجامعات والمراكز البحثية الوطنية للتعامل مع معطيات الثروة والتقلُّبات المناخية والتلوُّث البيئي والطبائع الصحراوية لمنطقة الخليج، أيْ بكلِّ بساطة ما هي استعداداتنا المستقبلية لما بعد النفط؟. هذا السائل الثمين الذي نقايضه بالأموال التي نشتري بها أوهام الاستقرار المعيشي المؤقت، لم نتمكن حتى الآن من استيعابه علمياً والسيطرة الكاملة عليه كثروة وطنية وتوظيفه ضد مستقبل الجوع والعطش المتوقّع بعد النضوب وخراب البيئة. كل الدول الغربية لديها شركاتها العملاقة المسيطرة على علوم النفط وأبحاثه واقتصاده، لكن أيضاً البرازيل لديها بتروبراس، وماليزيا لديها بتروناس وهي دول حديثة الدخول نسبياً إلى عالم النفط، ولكن شركاتها الوطنية أصبحت منافساً جدِّياً في مجالات التنقيب والاستخراج والتصنيع والبحوث النفطية العلمية على مستوى العالم. نحن بامتياز ننتمي إلى أصحاب العقليات الاكتفائية في كل شيء، ماعدا المزايدات الكلامية في المذاهب والطوائف والأعراق على بعضنا البعض. الرياض