كثير من الناس لا يشعر بلذة العطاء إنما يشعر بلذة الأخذ، وكثير منهم يرى أن اللذة لا تكون إلا بالأخذ لا بالعطاء. وربما خطر في بال كثيرين أن العطاء يعتريه ما يعتريه من التكَرُّه ومغالبة الطبع، وحب الاستئثار؛ فلا يكون معه -والحالة هذه - لذة أو فرح. بخلاف الأخذ؛ حيث يصحبه نشوة، وفرحة، وربما تنفيس كربة. وكل ذلك واقع صحيح، غير أن اللذة الكبرى، والسعادة العظمى، إنما هي بالعطاء دون الأخذ، وهي التي يشعر بها من ذُلِّلت لهم سبل المكارم تذليلاً. ولهذا يرى بعض نقاد الأدب الأوائل أن أمدح بيت قالته العرب هو قول زهير: تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله واعترض بعضهم على ذلك بأن المعطي في هذا البيت يفرح بالعطاء كفرحه بالأخذ، وإنما الشأن كل الشأن بمن يكون فرحه بالعطاء أكثر من فرحه بالأخذ، ورأوا أن بيت زهير لا يبلغ شأو بيت أبى نوفل عمر بن محمد الثقفي الذي يقول فيه: ولئن فرحتَ بما يُنيلك إنه لبما ينالك من نداهُ افرح مازال يعطى ساكتاً أو ناطقاً حتى ظننتُ أبا عقيلٍ يمزح وبيت أبى تمام الذي يقول فيه: أسائلَ نصرٍ لا تسله فانه أحنُّ إلى الإرفاد منك إلى الرفد وهذا هو السر في اهتزاز ذوي المروءات للندى، وهذا هو الذي حدا بالحكيم العربي أن يقول: «الكريم لا تحنكه التجارب». وحدا بالحكيم الآخر أن يقول: «كيف يستطيع حفظ ما جمعت كفاه من ذاق لذة الإنفاق». وكان من أمدح أبيات الشعر قول بشار بن برد في عقبة بن سلم: إنما لذةُ الجواد ابنِ سَلْمٍ في عطاء ومركب ولقاء ليس يعطيك للرجاء ولا الخو فِ ولكن يلذٌّ طعم العطاء وقول الآخر في ممدوح له: ويكاد من فرط السخاء بنانه حبَّ العطاء يقول: هل من سائل يقال هذا لأن نفراً من الناس لا يجود بالمال على والديه أو بعض من لهم حقٌ عليه؛ بحجة أن أولئك ينفقون المال على بعض المحتاجين، أو يتكرمون بجزء منه على بعض الأطفال؛ فيقول: أنا أريد من والدي أو من أجود عليه أن يمسك بالمال، ويصرفه في حاجته؛ فهذا سبب من أسباب منعِ بعضِ الناسِ مالَهُ. وما علم ذلك أن بعض الناس إنما يجد لذته، وفرحه بالعطاء. والحاصل أن اللذة الحقيقية إنما هي بالعطاء دون الأخذ، وهذا آخر ما انتهت إليه فلسفة الأخلاق - كما يقول الرافعي -. وإذا اجتمع مع ذلك كله الفرح بنعمة الإحسان إلى الآخرين، واحتساب الثواب عند الله، والثقة بما عنده - عز وجل - كان نوراً على نور، والله يؤتي فضله من يشاء. * جامعة القصيم