تقول المعاجم اللغوية: مَدَحَهُ: أثنى عليه بما له من الصفات. مَدَّحَهُ: أكثر من مدحه. وتَمدَّح: تكلف أن يمدح، وافتخر، وتشبع بما ليس عنده. يقول حجة الإسلام، أبو حامد الغزالي: إن لحب المدح والتذاذ القلب به أربعة أسباب: الأول: شعور النفس بالكمال، لأن الكمال محبوب، وكل محبوب فإدراكه لذيذ، فكلما شعرت النفس بكمالها ارتاحت وتلذذت. والمدح يشعر نفس الممدوح بكمالها، فإن الوصف الذي به مدح إما أن يكون جلياً ظاهراً، أو يكون مشكوكاً فيه. فإن كان جلياً ظاهراً محسوساً، كانت اللذة به أقل؛ ولكنه لا يخلو عن لذة، كثنائه على الممدوح بأنه طويل القامة، أبيض اللون. فإن هذا نوع كمال، ولكن النفس تغفل عنه فتخلو عن لذته؛ فإذا استشعرته لم يخل حدوث الشعور عن حدوث لذة. وإن كان ذلك الوصف مما يتطرق إليه الشك، فاللذة فيه أعظم، كالثناء عليه بكمال العلم أو كمال الورع أو بالحسن المطلق. فالإنسان ربما يكون شاكاً في كمال حسنه، وفي كمال علمه، وكمال ورعه. ويكون مشتاقاً إلى زوال هذا الشك بأن يصير مستيقناً، لكونه عديم النظير في هذه الأمور، إذ تطمئن نفسه إليه. فإذا ذكره غيره، أورث ذلك طمأنينة وثقة، باستشعار ذلك الكمال، فتعظم لذاته. وإنما تعظم اللذة بهذه العلة مهما صدر الثناء من بصير بهذه الصفات خبير بها، لا يجازف في القول إلا عن تحقيق. وإن صدر ممن يجازف في الكلام، أو لا يكون بصيراً بذلك الوصف، ضعفت اللذة. وبهذه العلة يبغض الذم أيضاً ويكرهه، لأنه يشعره بنقصان نفسه. والنقصان ضد الكمال المحبوب. فهو ممقوت، الشعور به مؤلم، ولذلك يعظم الألم إذا صدر الذم من بصير موثوق به. الثاني: إن المدح يدل على أن قلب المادح مملوك للممدوح، وأنه مريد له، ومعتقد فيه، ومسخر تحت مشيئته. وبهذه العلة تعظم اللذة مهما صدر الثناء ممن تتسع قدرته وينتفع باقتناص قلبه كالملوك والأكابر، ويضعف مهما كان المادح ممن لا يؤبه له، ولا يقدر على شيء، فإن القدرة عليه بملك قلبه قدرة على أمر حقير، فلا يدل المدح إلا على قدرة قاصرة. وبهذه العلة أيضاً يكره الذم ويتألم به القلب، وإذا كان من الأكابر كانت نكايته أعظم لأن الفائت به أعظم. الثالث: إن ثناء المثني ومدح المادح سبب لاصطياد قلب كل من يسمعه، لا سيما إذا كان ذلك ممن يلتفت إلى قوله ويعتد بثنائه. وهذا مختص بثناء يقع على الملأ، فلا جرم كلما كان الجمع أكثر والمثني أجدر بأن يلتفت إلى قوله، كان المدح ألذ، والذم أشد على النفس. الرابع: إن المدح يدل على حشمة الممدوح، واضطرار المادح إلى إطلاق اللسان بالثناء على الممدوح إما عن طوع وإما عن قهر، فإن الحشمة أيضاً لذيذة لما فيها من القهر والقدرة، وهذه اللذة تحصل، وإن كان المادح لا يعتقد في الباطن ما مدح به، ولكن كونه مضطراً إلى ذكره نوع قهر واستيلاء عليه، فلا جرم تكون لذته بقدر تمنع المادح وقوته، فتكون لذة ثناء القوي الممتنع عن التواضع بالثناء أشد. هذه الأسباب الأربعة قد تجمع في مدح مادح واحد فيعظم بها الالتذاذ، وقد تفترق فتنقص اللذة بها. أما العلة الأولى وهي استشعار الكمال فتندفع بأن يعلم الممدوح أن المادح غير صادق في قوله، كما إذا مدح بأنه كريم أو حكيم، وهو يعلم من نفسه ضد ذلك، فتزول اللذة التي سببها استشعار الكمال، وتبقى لذة الاستيلاء على قلبه وعلى لسانه وبقية اللذات، فإن كان يعلم أن المادح ليس يعتقد ما يقوله، ويعلم خلوه عن هذه الصفة بطلت اللذة الثانية، وهو استيلاؤه على قلبه، وتبقى لذة الاستيلاء والحشمة على اضطرار لسانه إلى النطق بالثناء. فإن لم يكن ذلك عن خوف بل كان بطريق اللعب بطلت اللذات كلها، فلم يكن فيه أصلاً لذة لفوات الأسباب الثلاثة، فهذا ما يكشف الغطاء عن علة التذاذ النفس بالمدح وتألمها بسبب الذم. إن أعظم الناس إنما هلكوا بسبب خوف مذمة الناس وحب مدحهم، فصارت حركاتهم كلها موقوفة على ما يوافق رضا الناس، رجاء للمدح وخوفاً من الذم، وذلك من المهلكات، فيجب معالجته، التي لأجلها يحب المدح ويكره الذم. أما السبب الأول، استشعار الكمال بسبب قول المادح، فطريقك فيه أن ترجع إلى عقلك وتقول لنفسك: هذه الصفة التي يمدحك بها، أأنت متصف بها أم لا؟ فإن كنت متصفاً بها، فهي إما صفة تستحق المدح، كالعلم والورع؛ وإما صفة لا تستحق المدح كالثروة والجاه والأعراض الدنيوية. فإن كانت من الأعراض الدنيوية فالفرح بها كالفرح بنبات الأرض الذي يصير على القرب هشيماً تذروه الرياح، فلا ينبغي أن يفرح الإنسان بعروض الدنيا، وإن فرح فلا ينبغي أن يفرح بمدح المادح بها بوجودها، والمدح ليس هو سبب وجودها. وإن كانت الصفة مما يستحق الفرح بها كالعلم والورع، فينبغي ألا يفرح بها لأن الخاتمة غير معلومة، وهذا إنما يقتضي الفرح، لأنه يقرب عند الله زلفى، وخطر الخاتمة باقٍ. ففي الخوف من سوء الخاتمة شغل عن الفرح بكل ما في الدنيا. ثم إن كنت تفرح بها على رجاء حسن الخاتمة، فينبغي أن يكون فرحك بفضل الله عليك بالعلم والتقوى. أما السبب الثاني، وهو دلالة المدح على تسخين قلب المادح، وكونه سبباً لتسخير قلب آخر؛ فهذا يرجع إلى حب الجاه والمنزلة في القلوب، وذلك بقطع الطمع عن الناس وطلب المنزلة عند الله، وبأن تعلم أن طلبك المنزلة في قلوب الناس وفرحك به يسقط منزلتك عند الله! فكيف تفرح به؟ السبب الثالث، وهو الحشمة التي اضطرت المادح إلى المدح، فهو أيضاً يرجع إلى قدرة عارضة لا ثبات لها ولا تستحق الفرح، بل ينبغي أن يغمك مدح المادح وتكرهه وتغضب به؛ لأن آفة المدح على الممدوح عظيمة. قال بعض السلف: من فرح بمدح فقد مكن الشيطان من أن يدخل في بطنه. وقال صلى الله عليه وسلم لمادح: «ويحك قصمت ظهره، لو سمعك ما أفلح إلى يوم القيامة». وقال: «ألا لا تمادحوا وإذا رأيتم المادحين فاحثوا في وجوههم التراب». فلهذا كان الصحابة على وجل عظيم من المدح وفتنته، وما يدخل على القلب من السرور العظيم به، حتى إن بعض الخلفاء الراشدين سأل رجلاً عن شيء، فقال: أنت، يا أمير المؤمنين، خير مني وأعلم. فغضب وقال: إني لم آمرك بأن تزكيني. وللناس أربعة أحوال إضافة إلى الذام والمادح: الحالة الأولى: أن يفرح بالمدح ويشكر المادح ويكافئه، ويغضب من الذم ويحقد على الذام. وهذا حال أكثر الخلق وهو غاية درجات المعصية. الحالة الثانية: أن يمتعض في الباطن على الذام، ولكن يمسك لسانه وجوارحه عن ذلك، ويرتاح للمادح، ولكن يحفظ ظاهره عن إظهار السرور، وهذا من النقصان، إلا أنه إضافة إلى ما قبله كمال. الحالة الثالثة: هي أولى درجات الكمال، وفيها يستوي عنده ذامه ومادحه، فلا تغمه المذمة ولا تسره استثقالاً. وهذا قد يظنه بعض العباد بنفسه، ويكون مغروراً إن لم يمتحن نفسه بعلاماته. وعلاماته ألا يجد في نفسه استثقالاً للذام عند تطويله الجلوس عنده أكثر مما يجده في المادح، وألا يجد في نفسه زيادة ونشاط في قضاء حوائج المادح فوق ما يجده في قضاء حاجة الذام، وألا يكون انقطاع الذام عن مجلسه أهون عليه من انقطاع المادح. الحالة الرابعة: وهي الصدق في العبادة، أن يكره المدح ويمقت المادح، إذ يعلم أنه فتنة عليه، قاصمة للظهر، مضرة له في الدين. ويحب الذام، إذ يعلم أنه مهدٍ إليه عيبه، ومرشد له إلى مهامه. * باحث في الشؤون الاإسلامية