كنا قد انتهينا في الحلقة السابقة عند الحديث عن مؤسسة العلماء/ المشايخ وأدوارهم الإيجابية في مسيرة المجتمع ونحن نواصل الحديث عن (أئمة الرأي) فإن هذه الحلقة قد خصصت للحديث عن المؤسسة المتعلمة المثقفة الانتلجنسيا كونها المؤسسة التي تعضد المؤسسة المشائخية نحو قيادة المجتمع وتبصيره نحو ما يجب فعله او الامتناع عنه على ضوء مستجدات العصر. **يلقى الغموض عادة مفهوم الانتلجنسيا لروائجه وكثرة توظيفاته وتباين مدلولاته خصوصاً أنه يجاور مفهوم المثقف فيغدو أحياناً مرادفاً له فمصطلح الانتلجنسيا intellingansia قد استعمل من قبل الأوربيين الشرقيين، وهو اصطلاح يعني المفكر, أما مصطلح المثقف فقد تخلق من خلال أدباء فرنسا Drefuse دريفوس عام 1894م وعادة مايترادف هذان المصطلحان باعتبارهما يعنيان الفئة من المفكرين ذوي النزعة النقدية التقدمية. ونحن اذ نتناول المثقف والانتلجنسي كرأسمال، وجدنا أن الفكر قد اصبح بضاعة تباع وتشترى كاي بضاعة تجارية في السوق, وسوق هذه البضاعة الفكرية هي الجامعات والاحزاب والصالونات والنوادي الأدبية والمنابر الاعلامية بكافة، وحلقات المناقشات من مؤتمرات وندوات وجمعيات مهنية. وذلك لما يقدمه المتعلمون للمجتمع من حلول لمشكلاتهم وتحديد لأهدافهم ورؤاهم من خلال مايثيرونه من مناقشات في النوادي والمحاضرات والصحف والمجلات، فالمثقف السعودي بدأ يستحضر مقولات الأهداف الوطنية والتنموية، هذا الاستحضار للمقولات الوافدة، سبب له حالة من الوعي المنفصم بين طرفي نقيض, اذ تتجاذبه من ناحية رغبته في الانخراط في (هم الحداثة) والعقلانية الغربية من اقتصادية ومؤسسية, ومن الطرف الآخر ينجذب لهم المحافظة على الذات وأمجاد (الارث التاريخي) وتجنب الهيمنة الحضارية للمجتمعات الحديثة, فهاتان المتناقضتان مستقرتان في لاوعي المثقف السعودي ويسببان له حالة خنق كأنما يصَّعَّد في السماء. فإذا ارتد إلى موروثه وجد أن إرثه دولة لا تغيب عنها الشمس ولكنه لايملك أدوات إعادة هذا الإرث, واذا التفت حوله أو ترقب ماهو قادم فليس امامه سوى العولمة والتجارة الدولية التي لايملك خيارها ولا التأثير فيها, لذايصبح المثقف في حالة اغتراب وقنوط ويأس. ** فالمثقف (السعودي) يعترف بالموروث التقليدي ولايرضى بديلاً عن الإسلام فيما يتعلق بالعبادات والاحوال الشخصية ومحاولة ابتعاث امجاد الماضي, ولكنه لايرفض مستجدات العصر مالم تصدم بنص صريح (ولا اجتهاد مع النص) وقد تكون محاولته الإفادة من منجزات العلم الحديث حرصه على استعادة الصدارة كما هو شأن امته في الماضي. وبعض المثقفين السعوديين حاول أن يكون له دور في قضايا التنمية, إلا أن هذا الدور يكاد ينحصر في الكتابة بالصحف والاداء الوظيفي من خلال انخراطه بالعمل الحكومي بصفته المجال الوحيد الذي يحقق له الهيبة والجاه والتطلعات الشخصية للحراك الصاعد, ولم تعط ثقافته الإبداع والمهارة التنموية وسرعة الإنجاز, بل انحنى لتوجهات الوظيفة وراعى مزاجها بتنازله عن دوره كمثقف مجتمع، مكتفياً بأن يكون دولاب وظيفة, يشغل كامل يومه بورق وروتين ومقابلة مراجعين, وهذا العمل اليومي لايعطيه الفرصة حتى لتدريب موظفيه على الإبداع والابتكار لمواجهة المشاكل الادارية أو ادارة التنمية الإدارة المرشدة, بل اكتفى باقتفاء اثر سلفه وهكذا, ولهذا اصبح المثقف اسير الروتين مما حدَّ من دور المثقف على توثيق الصلة بشرائح المجتمع وفئاته التي يتحدث خطابه عنها وباسمها ونيابة عنها. ** والمثقف السعودي لايقل شأناً عن غيره من المثقفين في المجتمعات الاخرى فهو من خلال رأسماله المصرفي يملك وعياً ومكانة تمكنه من تحديد أهداف المجتمع ووضوح مساراته، وأتمنى على المثقف ان يسخر هذه المعرفة لتصبح فاعلاً قادراً على حفز المجتمع وتعبئته للبناء والتنمية والوحدة والوقوف صفاً واحداً في خط المسيرة الخيرية, انطلاقاً من فهم المثقف للتناقضات التي تحكم نسق المنظومة الاجتماعية وتحويل تلك التناقضات والمصالح المتعارضة الى دمج وقوة وتحديد الأهداف ووضوحها والسير بها إلى خيار المصلحة المشتركة والمنفعة المجتمعية من خلال استثمار وتوظيف رأسماله المصرفي لما يساعد المجتمع على ماهو قادم عليه العالم, وبهذا المعنى يصبح المثقفون النجوم التي تهدي المجتمع إلى الطريق القويم نحو التقدم والرقي. والمجتمع حكومة وشعباً يستشعر من المثقفين من خلال مقالاتهم وبحوثهم وندواتهم ومشاركاتهم في المؤتمرات العالمية وتحاليلهم الموثقة تقديم النصح والمشورة وجلاء الرؤية لصانع القرار والمجتمع وذلك لما يتميزون به عن غيرهم لاستشعار هموم المجتمع وصياغتها في بحوث منثورة او مقالات مقروءة تجسد المسافة بين المواطن والمسؤول مما يزيد تعميق الثقة وشعور المحبة المتبادلين, لان المثقف من خلال رصيده الفكري ومعرفته الواسعة وتخصصه الحقلي متميز او هكذا مطلوب منه القدرة على تقديم القضايا والآمال والهموم من خلال بحوث اكاديمية معمقة تقدم الرؤية الواضحة لمن يمتهنون التشخيص والمراجعة, وهم القادرون على وصفة الدواء لانهم يستمدون افكارهم ومعرفتهم من تعايشهم اليومي مع المجتمع مسؤولاً ومواطناً, ويقدمون افكارهم من واقع المجتمع السعودي, و(المثقف الوطني) هو ضمير الدولة ووجدان المواطن, ولابد أن يقدم رؤيته بصراحة المستشار المحب صراحة تغلب فيها العقلانية والمطالبة في الممكن وطرحها أمام المجتمع بكل فئاته وشرائحه ليدركها المسؤول المشرع ويتفهمها المسؤول المنفذ ويطمئن المواطن في الشارع على أن قضاياه ومطالبه تعالج معالجة علمية ومعلومة لدى المعنيين في الأمر, واذا تأكدت للمواطن هذه الحقيقة فسوف ينام مطمئن البال على واقعه ومستقبله، ولن تقلقه الإشاعة كما أنه لايصدقها طالما قضايا المجتمع مطروحة للمناقشة أمام الرأي العام ومقروءة لدى الجهات الرسمية، وكذلك مكتوبة من قبل المهتمين والمختصين بقضايا المجتمع. ** وكم أتمنى على المثقف أن ينشغل بتلمس قضايا المجتمع الاقتصادية والادارية والتنموية والتوعوية والاقتراب منها واستيعاب احتياجات الوطن حتى في ابسط الخدمات الإنسانية والاجتماعية وشغل الساحة الثقافية ومنابرها بكل ماهو مفيد وعدم تركها شاغرة لخلاف ذلك. اذ نلاحظ من بعض الأقلام شغل الساحة بترديد مقولات سبق أن قيلت بالوطن العربي أو (المجتمع الليبرالي) أو غيرهما مما يصرف القارىء عن تتبع تلك المقالات، اذ لايشد انتباه القارىء إلا الرؤى الفكرية الموجهة للمجتمع والابداعات الخلاقة لإشعال جذوة الوعي وتحديد المسارات نحو أهداف واضحة, وما توفيقي إلا بالله.