مما لا شك فيه أن اللعب لم يعد مقصورا على سن الطفولة الغضة، والتاريخ يحكي لنا كيف أن كل أمر عظيم نشأ في بدايته على شكل لعبة. وتربويا لا يمكن إنكار أن اللعب واللعبة معمل ومعترك لتدريب الفكر على النظر بشمولية لمختلف الأمور، ولسبر أغوار الغموض، ولاستنباط الحلول المناسبة، وتجريبها، ووضع الأسس العظيمة للتفكير الإيجابي، وللتطوير الذاتي، سواء كان ذلك في مجالات العمل، أو في أمور الحياة الشخصية والعامة. وهذا ما دعا بعض علماء الرياضيات للتفكير في وضع (نظرية للعبة)، مع أن فكرتها قديمة تعود إلى عهود التلمود من الناحية التاريخية. غير أن أعمال (كورنو بوريل، وزيرميلو)،على أية حال، كانت قد أوصلت النظرية إلى شكلها المعاصر، الذي ينسب إلى (جون فون نيومان، وأوسكار ومورجنسترن)، حيث كانا قد نشرا (نظرية اللعبة الإستراتيجية، والسلوك الاقتصادي)، في سنة (1944م)، والتي حازا فيها على جائزة نوبل للاقتصاد. ونظرية اللعبة، في حقيقتها تعتبر فرعا خاصا من الرياضيات تم تطويره لدراسة طرق ومحاذير اتخاذ القرارات في الظروف المعقدة، والنظرية تحاول توقع النتائج استنادا على النماذج التفاعلية، التي يكون فيها قرار كل طرف يؤثر على قرارات الأطراف الأخرى، بمعنى أن (اللعبة) تقيس مدى تأثير حركة لاعب، واحد على حركات الآخرين، والعكس. وقد يكون هذا التعريف الواسع واضح لدينا بالصيغ الاجتماعية، والعلوم الطبيعية، فنحن نعرف أن تحركا بسيطا، قد يؤدي بكامل التحركات المتقاربة إلى نتائج غريبة لم تكن في الحسبان، وبالطبع فكلما تمكنت من حساب تأثيرات التفاعلات المختلفة، كلما توقعت النتيجة. ولكن، نظرية اللعبة العلمية تطبق النماذج الرياضية الحسابية، مع فرضية أن سلوك الشخص يؤثر على حالة كل المشاركين الآخرين في اللعبة، مما يبسط التجريد في أغلب الأحيان، ويبين لنا تفاعلات العالم الحقيقي من حولنا. فبذلك تصبح اللعبة النظرية مجالا خصبا لتصور الاحتمالات، وقياس المردود، وتوقع النتائج، مما قد يُخرج اللعب عن مفهوم التسلية فقط، ويخلق منها أداة للبحث والاستنباط والتيقن. ولتبسيط المفهوم، فقد وضع العلماء مثالا نموذجيا لنظرية اللعبة، وهو (معضلة السجين)، حيث يتم تخيل مجرمين اعتقلا بعد أن ارتكبا جريمة مشتركة، ويفترض أن الشرطة ليس لديها دليلا كافيا للإدانة. فيتم عزل السجينين عن بعضهما، وتقوم الشرطة بعرض صفقة على كل منهما. بتعهد من الشرطة بأن الشخص، الذي يقدم الدليل ضد الآخر سيكون حرا. فإذا لم يقبلا العرض، فهذا دليل على عدم تعاونهما مع الشرطة، وأن كلاهما سيتلقيان عقابا بسيطا بسبب نقص الأدلة، وأن كلاهما سيربح في النهاية على أية حال. ولكن إذا حدث وخان أحدهما الآخر بالاعتراف، فما من شك بأنه سيكسب أكثر من الثاني، وأنه سيصبح حرا، بينما وعلى الناحية الأخرى، سيتلقى العقاب بالكامل الطرف الآخر، الذي يلتزم الصمت. وإذا خان كلاهما، فسيعاقبان بشكل أقل من عقاب رفضهما للكلام. وتكمن المعضلة وحبكة اللعبة هنا، في قدرة الشرطة على التلاعب بالمجرمين، كل على حدة، وعلى حيرة المجرمين في عدم ثقتهم بصمت الشريك الآخر، مما يجعل الوصول للنتائج، أسرع وأفضل، ويجعل عملية حساب النتائج، أكثر دقة، ووصولا للحقيقة. وتستعمل نظرية اللعبة في مجالات إعداد مفاوضات عمل، وفي حالات وجود وسيط، أو محامي بين الطرفين، وفي عمليات المساومة، وفي تحليل شروط السوق المستقبلية، واتخاذ القرارات الإستراتيجية قبل البدء في المشاريع، وعند تقييم قابلية نجاح المغامرة الجديدة، أو النموذج، أو العمل، أو البرنامج، أو المشروع، أو المنتج، أو الخدمة، أو التقنية. وكلما كانت الحالة حقيقية، كلما كانت افتراضات نظرية اللعبة أكثر تعقيدا، ببساطة لأن العالم، الذي نحيا فيه معقد جدا، ولا بساطة في معطياته. فلو أحببنا أن نكتب نموذجا يصف بدقة القرارات، التي يتخذها الناس عموما، فلا يمكن لأي أجهزة حاسوبية عملاقة أن تتمكن من حساب ذلك. وعادة ما تعتمد النظرية، على الافتراضات العادية مثل الرشد: بمعنى قدرة الناس على اتخاذ القرارات، التي تجعلهم سعداء، والمعرفة العامة: فنحن نعرف أن كل شخص يعرف قدراته وظروفه ومحيطه، ويعرف ما يمكن أن يسعده أو يشقيه. ودرجات هذه الفروض، تكون إما (قوية جدا، أو واقعية، أو من المحتمل). أما الضعيف فلا يمكن الاعتماد عليه. وهذه دعوة مني للجميع بتوسيع آفاقنا عائليا، واجتماعيا، وفي أعمالنا، وفي حياتنا الخاصة والعامة، ولنلعب لعبة فكرية مليئة بالاحتمالات، تجعلنا أكثر وعيا وفهما لطريقنا، وتمكننا من الاختيار الصحيح، في الوقت المناسب.