بكل فزع.. أقفز من فراشي استجابة لرنين منبه الجوال.. إنها السادسة والنصف صباحاً بعد غفوة لساعة من صلاة الفجر.. وقت التوجُّه للعمل.. عفواً التوجه للطريق.!! نعم.. فبرنامجي اليومي والذي يشاركني فيه كثير من سكان العاصمة الرياض يبدأ بالتوجه للطريق ثم التوجه للعمل... فالطريق لم يعد وسيلة للوصول للعمل كما كان سابقاً وقت والدي ووالدك.. بل روتين يومي يصل لبعض المحظوظين إلى نصف الساعة. ولأنني أحب الالتزام بالمواعيد.. فأنا أبذل جهدي للخروج قبل السابعة إلاّ ربعاً من المنزل.. فأي دقيقة تأخير بعد هذه الربع محسوب مقابلها عشر دقائق تأخر عن الوصول للعمل.. أثناء عملية بذل الجهد للخروج من المنزل.. تسرقني الذكرى لعدة سنوات سابقة.. حين كنت أقضي ربع ساعة من المنزل إلى العمل وأتذمّر من الازدحام.. رب يوم بكيت فيه فلما صرت لغيره بكيت عليه!! أمتطي مركبتي الجيب (من أحكم القرارات التي أفخر بها.. شراء جيب).. أربط حزام الأمان.. ألبس الخوذة.. وأنطلق للخروج من حي الريان باتجاه طريق خريص.. بتفاؤل وحسن ظن.. ينطلق خيالي.. الجامح.. الطامح.. غير المنضبط.. ليأخذني إلى طريق واسع خالٍ من الازدحام المروري العنيف.. المحبط.. القاتل.. الذي لا يرقب فينا إلاّ ولا ذمة.. طريق معبد.. مسفلت.. نظيف.. بسيارات يتبسم راكبوها.. وتبدو على وجوههم السعادة.. فجأة.. أصحو من خيالي على صوت مكابح سيارتي تتوقف على بعد سنتيمترات عن سيارة أمامها نتيجة ازدحام في شارع الشيخ عمر بن سليم معلنة بدء المناوشات العسكرية قبل المعركة الكبرى.. ازدحام بسيط من بعد الدوار الثاني القريب من خريص يأخذ من وقتك ما يقارب العشر دقائق تقريباً.. يعتبره كثير من مستخدمي الطريق أنه عملية إحماء وتسخين لما بعده.. ونقطة تجهم الوجه وبدأ الشد العصبي.. عن نفسي أعتبره ضرورياً جداً.. حيث إنه فرصة لتجربة السيارة ومدى استعدادها لقفز الحواجز واختبار النفسية عند حدوث المشادات مع زملائك في الطريق من أبناء الحي.. خصوصاً إن الازدحام سببه ازدحام في خريص نفسه بسبب الإشارة عند المدرسة الهندية.. تلك البؤرة والتي غالباً يكون سبب الازدحام فيها سيارة تريد الذهاب يساراً بينما الأخرى تريد الذهاب يميناً.. أو حادث بين باص مدرسي وكورلا (لا أعرف معايير الحوادث هناك) يتسبب في إغلاق أعلى النفق لإشارة هوندا وما بعدها في ظل انشغال رجل المرور الوحيد في عملية إدخال الناس لطريق خريص المتوجهين لوسط الرياض. هذه ليست دعوه للفوضى.. في السابق كنت أحتقر معاكسي الطريق.. قافزي الأرصفة.. قاطعي الإشارات.. كأي مواطن مخلص إلى درجة التبليغ عن كل مفحط متهور أراه.. مستهتر بأرواح الناس.. بالرغم من عودة المفحط في الغد إلى نفس المكان وباستهتار أكبر.. كنت أحتقرهم كثيراً.. لكن.. يبدو أني بدأت أتعاطف معهم.. فالعاكسون والقافزون وقاطعو الإشارة هم مواطنون يحاولون النجاة من معركة الطريق... بينما المفحط أصبح في نظري شخصاً سعيداً بخلو الشارع من السيارات.. غير مصدق رؤيته لهذا المنظر.. خصوصاً إذا كان شاباً صغيراً ولد وترعرع في بيئة ازدحام مروري.. كعشرات الأطفال الذين أشاهدهم كل صباح عالقين وسط باص مدرسة في الازدحام المروري.. أو محمر الوجه من الحر الشديد في سيارة والده.. كاره لليوم الدراسي.. منفعل ومتوتر بسبب توتر والده الذي يفكر بوقت الوصول للعمل ولا يلام ! لا يمكن لشخص طبيعي يخرج من المعركة الصباحية والمغامرة اليومية في شوارع الرياض ويصل لمقر عمله أن يثبت بأن مزاجه معتدل وبكامل لياقته.. أو يثبت بأنه لا يشعر بإجهاد ذهني وبدني وبهدوء نفسي يدفع للإنتاج والعطاء للساعات القليلة القادمة من العمل.. كما لا يمكن أن نلوم الطالب الشارد الذهن في الحصص الأولى من يومه الدراسي، والذي يحاول إقناع نفسه بأن التوتر الصباحي الخاص بالطريق مختلف عن التوتر الصباحي الخاص بالمدرسة والواجبات ... الخ. لا أعرف كيف نتوقع ممارسة حياة اجتماعية متينة من زيارات وتواصل مع الآخرين في مدينة يرعبك منظر طرقها من الازدحام المخيف.. خصوصاً أوقات المساء. كيف نصف بيئتنا بأنها جاذبه للاستثمار في شوارع هي أشبه بالمتاهة.. تقضي جل وقتك أثناء السير فيها بالتفكير بكيفية الخروج منها. سؤال يلح عليّ كثيراً خصوصاً حين رؤيتي لأسراب السيارات المتوقفة في الدائري الشرقي أو حتى بعض الشوارع الحيوية وتفرعاتها.. سؤال بريء جداً.. هل يستخدم المسئولون نفس الشوارع التي نستخدمها؟! هل يعانون من الانتظار المزعج؟! هل أوقفوا الخروج من المنزل أيام الأسبوع كما يفعل البعض؟ هل حددوا لزوجاتهم أوقاتاً معينة للخروج وفق شروط معينه؟ هل يقرؤون كتاباً أو يشاهدون فيلماً وهم في المقعد الخلفي أثناء توقف السيارة بازدحام لمدة ساعة ونصف من أجل مرور موكب رسمي لثلاث دقائق؟! ليست مقالة ولا شكوى.. إنها فضفضه وتفكير بصوت عالٍ وأنا أشاهد لوحة تشير لقرب بدء مرحلة ثانية من التطوير في أحد الشوارع الرئيسية. [email protected]