سيدة تبلغ من العمر 32 عاماً، ، متزوجة وأم لطفلين، ، ذهبت لمقابلة الطبيب في المركز الصحي لأنها لم تعد تتحمل كثرة الآلام المفرطة والمتعددة التي ظلت تعاني منها، ، وأنها أصبحت غير قادرة على القيام بإدارة شؤونها المنزلية ومساعدة طفليها في استذكار دروسهما كما تعودت، وعندما سألها الطبيب عن شكواها ذكرت انها تعاني من آلام وأوجاع متعددة، ، تشمل نوبات صرع وآلام شديدة في البطن مصحوبة بغثيان كما تعاني من الإمساك الذي يتحول إلى اسهال أحيانا مع فقدان للشهية، وأظهر الفحص السريري أنها تعاني من اعتلال عام في صحتها وأن وزنها انخفض بشكل حاد خلال الشهور القليلة الماضية من زيارتها للمركز الصحي، ، وكان لابد من إخضاعها لفحوص تشخيصية دقيقة لتظهر المفاجأة فقد أكد الفحص الطبي سلامة جميع أجهزة جسمها وتحديدا الجهاز الهضمي، كما أن الفحوصات والتحاليل المخبرية والأشعة السينية للبطن كانت طبيعية وليس فيها أي دلالات مرضية، وهكذا طمأنها الطبيب وشرح لها أنه لا اساس لمخاوفها وأن الأعراض التي تعاني منها قد يكون مردها بعض العادات الغذائية السيئة وقلة الحركة، ، وزودها بنصائح طبية ووصف لها بعض الأدوية المنشطة لعملية الهضم، ولم تتوقف متاعب هذه السيدة عند هذا الحد، ، فقد ظلت تتردد على عيادات الأطباء مؤكدة أن حالتها خطيرة وأنها تحتاج إلى المزيد من الفحوصات الطبية، إذ ان احدى قريباتها كانت تشكو من نفس الأعراض واتضح أنها تعاني من مرض خطير في الكبد، ، وتحت الحاحها وأمام كثرة ترددها على العيادات اجريت لها فحوص متعددة منها فحص البطن بالموجات فوق الصوتية وبالأشعة المقطعية وفحص تخطيط قلب كهربائي بالموجات فوق الصوتية وأشعة مقطعية على الكبد وتحليل وظائف كبد، ، ومرة أخرى جاءت كل الفحوص مؤكدة سلامتها وخلوها من أي مرض عضوي، وبعد عام كامل من الشكوى والفحوص التشخيصية المتكررة حولها الطبيب الى عيادة الطب النفسي وفي العيادة النفسية تم تقييم حالتها حيث اتضح انها تعاني من توهم المرض، وتم إلحاقها بوحدة العلاج بقسم الطب النفسي التابع لمركز كورنيل الطبي بمستشفى نيويورك حيث عولجت، باشراف البروفيسور غراهام هاينز، استاذ الطب النفسي في معهد الطب بجامعة نيويورك، بمضادات الاكتئاب ومضادات القلق وبرنامج علاج نفسي لتتحسن حالتها وتختفي آلامها وتتوقف شكواها، هذه القصة الواقعية التي تحتل تفاصيلها أحد ملفات قسم الطب النفسي بمركز كورنيل الطبي كانت محور محاورة طويلة مع البروفيسور هاينز أجرتها معه «المجلة الطبية الأمريكية جاما» وكان محور الحوار هو الأمراض النفسجسدية أو الحالات المرضية العضوية ذات المنشأ النفسي، فحقائق العلم الحديث تؤكد أن الكثير من المرضى الذين تزدحمهم بهم العيادات لا يعانون من أمراض عضوية، ، وإن الضغوط النفسية والشد العصبي، وعلى رأسها التوتر الشديد والقلق، وراء قائمة طويلة من الأمراض والأعراض كالقولون العصبي والأكزيما العصبية، ، وأن الحالة النفسية تتصدر اسباب العديد من الأمراض مثل قرحة المعدة وبعض أعراض ومظاهر الضعف الجنسي، ، وتتصدر اسباب تفاهم الكثير من الأمراض كالربو أو الحساسية الصدرية، ، حتى إنه لم يعد هناك فاصل حقيقي بين المرض النفسي والمرض الحقيقي، ويقول البروفيسور هاينز: الأمراض النفسجسدية هي مجموعة من الأمراض المرضية العضوية لمشاكل نفسية وتسمى الأمراض السايكوسوماتية، ويطلق عليها اسم أمراض العصر بسبب العلاقة الوثيقة بينها وبين الضغوط النفسية والتوتر الداخلي، ومن الحقائق العلمية أن أي نوع من الانفعالات لا بد أن تصاحبه تغيرات بدنية خارجية وتغيرات فسيولوجية داخلية، فانفعالاتنا الخاصة بالسعادة أو الحزن، ، بالتوتر أو الراحة، ، بالقلق أو الطمأنينة، ، إنها تنعكس بشكل مباشر على الجسم وحياتنا الجسمانية تعتمد بشكل قوي على الجهاز العصبي الذي يتحكم في افرازات الغدد الصماء والغدد غير الصماء التي تؤثر بدورها على الجهاز العصبي بطريقة عكسية، ، والجهاز العصبي هو المهيمن على كل شيء حتى على الأفكار والحركة وكافة الصور الحياتية ابتداء بالتنفس وانتهاء بالدورة الدموية والنشاط الذهني واللاشعوري، ، فهو إذن القائد المسؤول والرابط الرئيسي للسلوك وردود الأفعال الفسيولوجية والاستجابات المرضية، ، وأي انفعال نفسي خارجي يؤثر حسب درجته وشدته بشكل فوري وسريع على التوازن الداخلي ويتضح تأثير ذلك على أجهزة الجسم كالمعدة والرئتين والقلب ويستطرد البروفيسور هاينز: أما الذبحة الصدرية الكاذبة والحمل الكاذب وارتفاع ضغط الدم العصبي فهي بعض الحصاد المر لتأثير الضغوط النفسية، وهناك تعريف للأمراض السيكوسوماتية بأنها مجموعة من الأمراض التي تصيب بعض أجهزة الجسم أو وظائفه وتكون من الحدة والقوة بحيث تقاوم كل أشكال العلاج الطبي المعروفة التي تعجز عن مقاومتها أو تخفيف حدتها، والمرض السيكوسوماتي هو مرض جسمي أو عضوي ذو جذور وأسباب نفسية يظهر على شكل رد فعل استجابي لأي عضو مصاب كالاستجابات المعدية أو المعوية أو الاستجابات القلبية أو التنفسية أو الجلدية أو العضلية أو الجنسية، ، وهناك اضطرابات أخرى تشمل الدورة الدموية وجهاز الغدد الصماء واعضاء الجسم المختلفة، ، إلا أن هناك من يقول بأن الأمراض الناتجة عن اسباب نفسية أو التي تظهر وتتفاقم بفعل العوامل النفسية تشمل الربو والصداع النصفي والسمنة المفرطة وارتفاع ضغط الدم والتهابات الجلد والتهابات القولون التقرحي وقرحة المعدة، وفي تقرير المكتب الصحي الفيدرالي في الولاياتالمتحدة تناول ضمن تصنيفه للأمراض مجموعة كبيرة من الأمراض ذات المنشأ النفسي أو التي تعود أصلاً لأسباب أو ازمات نفسية وتشمل ضغط الدم الجوهري، ، قرحة المعدة والأمعاء، ، الربو وأمراض التنفس، ، أمراض القلب وأمراض الشرايين التاجية، ، الذبحة الصدرية، ، الجلطة الدموية، ، الامساك والمغص، ، الاسهال المزمن، ، التهاب المفاصل السوماتيزمي، ، تضخم الغدة الدرقية، ، الطفح الجلدي، ، الصداع النصفي، ، البهاق(البرص)، ، البول السكري، ، سلس البول العنيد، ، اللمباجو وعرق النساء، فالأمراض النفسجسدية أو السيكوسوماتية إذن هي نتيجة لضغط انفعالي أو مستمر بسبب مشكلات وأعباء الحياة اليومية التي يعيشها الانسان في هذا العصر الذي أصبح يسمى عصر القلق والسكتة القلبية والجلطة الدموية والذبحة الصدرية والسرطان والتهابات الدماغ والروماتيزم والتحسس والأعصاب والفصام والهستيريا والذهان، ، وتأثير هذا الضغط النفسي يتوقف على الأسلوب أو الحل الذي يستجيب به الفرد لشدائد الحياة ومواقفها، ، فإذا تم إخراج الانفعالات التي يتطلبها الموقف في صورة طبيعية أو لفظية فإن التوترات الداخلية تعمل من الداخل وتعطل الوظائف السوية لبعض الأعضاء، ، أي أن انفعالاتنا إذا لم تتمكن من التعبير الظاهر عن نفسها بصورة ملائمة فإن اجسامنا تتولى التعبير عنها بما تستهلكه من لحم ودم، وعلى سبيل المثال فإن أمراض القلب الناتجة عن أسباب نفسية فتسببها مواقف انفعالية تثيرها ظروف اجتماعية عديدة كالضياع والاغتراب والكبت والقلق والمشكلات العائلية والانفعالية والقمع وسواها مما تحمله لنا الحضارة المعقدة المعاصرة، ويبقى السؤال: كيف لا تتكرر قصة السيدة التي تصدرت هذه المحاور؟، ، أو كيف نفرق بين الأعراض المرضية ذات المنشأ العضوي وبين الأعراض المرضية ذات المنشأ النفسي؟ الحل يكمن في النظرة المختلفة أو الصحيحة للطب النفسي، ، فلا يزال الكثيرون يخجلون من فكرة استشارة الطبيب النفسي، ، ولا يزال الطب النفسي مرتبطا في نظر الكثيرين بالجنون، والهياج العصبي الشديد، ، وهم بذلك يحرمون أنفسهم من الاستفادة من هذا التخصص الطبي المهم الذي قد يضع بداية النهاية لمشكلات طويلة مزمنة تبدو في ظاهرها مستعصية لأن منشأها النفسي لا يحظى بالاهتمام،