تعد السيرة الذاتية فناً متميزاً يقع بين التاريخ والأدب، ذلك أنه رواية لأحداث الذات، أو ما يريد الكاتب رصده من تلك الأحداث، ومن هنا جاءت صلته بالتاريخ، أو فن السيرة منه. وكاتب السيرة الذاتية يلونها بألوان أدبية تدنيها من القصة تارة، وتارة تقربها أو بعضها من المقالة الوصفية ومن هذا جاءت صلتها بالأدب. وإتيان السيرة الذاتية على هذا النحو جعلها فناً جميلاً يرتاح القارىء إلى مواصلة قراءته لكونه يجد فيه حكاية حاله حيناً، وحيناً آخر يجد فيه الأسوة والقدوة والموعظة والعبرة، إلى ما يظفر به من متعة. ولقد كنا نظن أدبنا السعودي ضئيل الحظ من هذا الفن حتى خرج علينا عبدالله الحيدري، بهذه الدراسة الشاملة لكل ما أمكن الوصول إليه من مدونات هذا الفن «السيرة الذاتية» ولذا فإن هذه الدراسة تعد أول دراسة للسيرة الذاتية في الأدب السعودي. صحيح أن دراسة أخرى كتبت بعدها، أوزامنت في أول أيامها دراسة الحيدري، ولكنها لم تكن كمثلها، أعني أن دراسة الحيدري أكثر شمولاً وأدق منهجاً وأسلوباً وليس هذا مقام الموازنة بين البحثين. وقد نشر الحيدري هذه الأطروحة العلمية عن طريق دار المعراج بالرياض سنة 1418ه، في )752( صفحة من القطع المتوسط، وكانت قد نوقشت في 12/1/1417ه وكان ذلك في قسم الأدب بكلية اللغة العربية بالرياض التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وقد بنى المؤلف بحثه هذا على مقدمة وتمهيد وأربعة فصول قال عنها المؤلف: «الفصل الأول )النشأة والتطور( تاريخياً/ مسحياً يتتبع ظاهرة الكتابة عن النفس ويرصد تطويرها بحسب ظهورها: من سطور يكتبها المترجم لنفسه، إلى كتاب يخصص لهذا الغرض، وهذا ما يناسب عرض مادتها، أما الفصل الثاني )موضوعات السيرة الذاتية( فاتخذت منهجاً وصفياً يكشف عن هذه الجوانب تبعاً لفقرات الفصل: التاريخية، فالسياسية، فالاجتماعية، فالفكرية. وأما الفصل الثالث )الشكل الفني( فلم يكن يناسبه سوى المنهج التحليلي/ التفسيري للنصوص دون عناية بالناحية التاريخية، ولا الموضوعية، فاهتممت بالكشف عن الخصائص الفنية في السير الذاتية، بعيداً عن المنهج التاريخي وصرامته، أو الدرس الموضوعي ونمطيته. وفي الفصل الرابع والأخير )الموازنة( اتخذت منهجاً نقدياً وصفياً يكشف نقاط الالتقاء والاختلاف بين سيرنا وبعض السير الذاتية العربية، لكون الموازنة بحد ذاتها عملية نقدية». وعن هذاالبحث البكر في ميدانه في الأدب السعودي قال المؤلف: «ولكون البحث يدرس أحد فنون الأدب الحديث في النثر السعودي ليس له قدم الأجناس الأدبية الأخرى، فإن من المهم جداً أن نتعامل مع مصطلح )السيرة الذاتية( بتسامح كبير، وألا يتبادر إلى الأذهان أن الأعمال المدروسة جميعها تتحقق فيها شروط السيرة الذاتية مع ما تتطلبه من أمور صعبة المنال ليس من المتوقع تحققها في بواكير الاصدارات في هذا الجنس الأدبي. ولكن الأعمال المدروسة على أي حال أشكال من السيرة الذاتية، أو ألوان متفرعة عنها، فقد يكون بعضها ينحو نحو الذكريات، أو المذكرات، أو اليوميات... إلخ. ومن هنا، فإن استخدام مصطلح «السيرة الذاتية» وإطلاقه على بعض الأعمال إنما هو من باب التغليب، ومن قبيل التوسع في الاستخدام والتجوز، لصعوبة تحديد المصطلح الأدق الذي تنتمي إليه الكتابات المبكرة في هذا اللون. والهدف من الدراسة وصف هذه الأعمال، وتصنيفها، والتأريخ لصدورها وتطورها، ومدى وضوح المصطلح في أذهان كتابها من عدمه». ويستفاد من قوله هذا أنه لا يعد الذكريات والمذكرات واليوميات من باب السيرة الذاتية، ولست أرى صحة مثل هذا القول لأن التسمية لا تعني نقل المضمون من ميدان إلى ميدان آخر. قد يرى ذلك بعض الباحثين من عرب وغير عرب، ولست أرى مثل هذا صواباً، لكون المذكرات والذكريات وكذلك اليوميات حديثاً عن الذات وما يتصل بها، وما اتصلت به من شؤون الحياة والأحياء، وهذا يعني أنها في الصميم من السيرة الذاتية. على أن المؤلف قد عقد عنواناً في التمهيد هو: «السيرة الذاتية» وأشكالها المتفرعة عنها وذكر منها الاعترافات، والذكريات والمذكرات واليوميات وهذا لون من ألوان الاعتراف الصريح بكونها من المذكرات وفي صدره قال: «تفرعت السيرة الذاتية» إلى )صيغ كثيرة وأشكال متعددة لا تقتصر على سرد حياة الإنسان سرداً تسجيلياً ميكانيكيا، بل تهدف إلى الاختيار والتركيز والتصنيف ومتابعة خط ذي دلالة معينة في حياة الإنسان ولعل أبرز الأشكال والألوان التي تتبع السيرة الذاتية الاعترافات والذكريات، والمذكرات، واليوميات، وغير ذلك من الصيغ التي تنضوي تحت بند أدب البحث عن الذات وكشفها للنفس وللآخرين. ولأن كثيراً من الناس يخلطون بين هذه الأشكال خلطاً بيناً، ولا يكادون يدركون الفروق بينها، فإن من المستحسن أن نتحدث عن مدلول هذه الأشكال كل على حدة(. ثم تحدث عما عده فروقاً بينها وهي فروق إن صحت فإنها فروق بين أنواع الفن الواحد. أما القسم الثاني من التمهيد فعرض سريع للسير الذاتية المطبوع منها والمخطوط. ولما كان فيما عرضه في هذا كتاب «من حياتي» الذي أطلعته في حينه على ما كان في يدي منه فأحسب أنه من حقي الإشارة إلى أن ما اطلع عليه الباحث لم يكن سوى خُمس الكتاب، ولم أستر بقيته عنه عامداً ولكني كنت أظن أنه هو ما دونت ولكني عثرت بعد ذلك على ما يزيد على أربعة أضعاف ما اطلع عليه ابننا المؤلف. فكتاب «من حياتي» تبلغ صفحاته )1500( صفحة، وأحسبه سوف ينمو أكثر. وفي الفصل الأول: )النشأة والتطور( تحدث عن بدايات السيرة الذاتية، ثم عن مراحل كتابتها، ثم عن السيرة الفنية، وعن هذه أعني السيرة الفنية قال: «إن الفارق بين هؤلاء وكاتب السيرة الفنية يماثل الفرق بين الناظم الذي يحسن علم العروض ويجهل الصياغة الفنية، والشاعر المطبوع الذي يكتب القصيدة مستخدماً أفضل ما يملك من أدوات فنية ولذلك يمكن القول: إن كثيراً من الكتابات الذاتية تأخذ شكل السيرة فقط، وعند التأمل يتضح أنها ليست سيرة ذاتية فنية مع ما يتطلبه ذلك من أسس وقواعد. فهناك فارق بين أن يسجل المرء ما مر به في حياته عبر مراحلها المتعددة تسجيلاً تاريخياً/ تقريرياً يميل فيه إلى السرد وتقرير الحقائق، وأن يغمس قلمه في حبر الفن، ليروي لنا قصة حياته بأسلوب مشرق، مترابط الأحداث، مصوراً الصراع الداخلي بدقة، وقائماً على التفسير والتحليل للحوادث، متضمناً الاعتراف ببعض الأخطاء، أو القرارات المتسرعة التي اتخذها في حياته. ومن هنا فإن مطلب السيرة الذاتية الفنية مطلب عسير،ولا يتيسر إلا للموهوبين من الأدباء و الكتاب. ومن يكتب سيرته بصدق لابد أن ينظر إلى نفسه نظرة عميقة متأنية ليعرفها حق المعرفة». ووصف السيرة الذاتية الأدبية بالفنية قول لا غبار عليه لكن لو وصفوها بالأدبية لكان ذلك أدق. على أنه ربما لحظ أن كاتب السيرة الذاتية قد لا يكون أديبا ولكنه يملك من إحسان القول ما يدخل أسلوبه في إطار الفن الأدبي الجيد، وإن كنت أرى ذلك غير مسوغ لأن كاتباً من هذا الطراز لابد من أن يلحق في أسلوبه بالأدباء. وفي الفصل الثاني: «موضوعات السيرة الذاتية» عمد المؤلف إلى انتزاع هذه الموضوعات من السيرة الذاتية دون أن يعمد إلى عرض كل سيرة على حدة، وهذا المذهب الذي ذهب إليه حسن، بل هو ما أراه الصواب في مثل هذه الدراسة. أما الفصل الثالث: «الخصائص الفنية» ففيه تحدث عن الباعث الفني، وشخصية الكاتب، والنزعة القصصية، والاعتدال والتكلف، والمستويات الزمنية، وصورة المكان واللغة والأسلوب، وكأن مذهبه في حسن انتزاع الملامح الفنية كإحسانه في قبس الموضوعات في الفصل الثاني. أما الفصل الرابع ف«موازنة بين كُتَّاب السيرة الذاتية في المملكة العربية السعودية وغيرهم في الأقطار العربية، ولم يكن إحسانه في هذا الفصل بأقل من احسانه فيما مضى فهو لم يعمد إلى تخير سير معينة يوازن بينها وإنما نهج في ذلك منهجاً يتخير فيه مواقف أو حالات أو لوحات فنية كلامية أو نحو ذلك فيوازن بين كاتبين أو أكثر فيها. ومما أحسن واحسانه وافر أنه أشاد «باعتداد الأدب السعودي واحتشامه». ثم أنهى بحثه بخاتمة أوجز فيها ما انتهى إليه في هذا البحث الفريد فيما أرى، اتبع ذلك بفهارس جيدة تخدم الناظر في كتابه. وأحسب أن ما مضى من حديث يعطي القارىء والسامع صورة لإحسان المؤلف في هذا الكتاب الذي ما أظنه في حاجة إلى التنويه بما اشتمل عليه من جدة ودقة واستيعاب للمادة مع فهم ذكي وإدراك حصيف لكل ما في مادته من منطوق ومفهوم.