وفي شريعتنا الاسلامية يوجد ما يدل دلالة قطعية عند المسلمين وظنية عند غيرهم على ان عقوبة السجن ظهرت كاتجاه انساني في العقاب في المجتمعات الشرقية قبل الميلاد، واذا كان دحض شيء من نظريات مفكري الغرب بآيات من القرآن الكريم يعد امرا غير مقنع بالنسبة لهم، فانه بالرغم من ذلك يجب ايراد بعض من آياته للتدليل على انه ورد في نصوص القرآن الكريم ما يدل على ان الثقافة الشرقية الاسلامية قد وعت، منذ النصف الأول من القرن السابع الميلادي، ان عقوبة السجن كاتجاه انساني في العقاب قد وُجدت في مجتمعات العصور القديمة، فالله تعالى يقول في سورة يوسف آية 25: قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا الا ان يُسجن او عذاب أليم ويتضح، من سياق هذه الآية، ان هناك انواعا من العقاب عند الفراعنة اقل من العذاب الأليم وان السجن احدها. كما ان الثقافة الاسلامية قد ادركت منذ ألف واربعمائة سنة ان هذا الاتجاه الانساني في العقاب ظهر عند الفراعنة قبل غيرهم من خلال استخدامهم عقوبة السجن بدلا من العقاب بالعذاب الاليم في حادثة يوسف، وفي مواجهة جرائم خطرة مثل محاولة قتل الحاكم او الخروج عن طاعته, قال تعالى في سورة يوسف آية 36: ودخل معه السجن فتيان ويذكر المؤرخون والمفسرون ان هذين الفتيين سجنا عقابا لهما على محاولة قتل الملك الفرعوني. ويقول تعالى في سورة الشعراء آية 29: قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين وهذا عهد من فرعون بعقاب موسى عليه السلام بعقوبة السجن ان هو خرج عن طاعته. ومن يقارن العقوبات التي يواجهها من يقوم بمثل هذه الجرائم عند الأمم التي خلت قبل الفراعنة أو عاصرتهم أو جاءت بعدهم، بما في ذلك بعض شعوب العصر الحديث فان الفرق واضح ودال على ان الفراعنة كانوا يتمتعون باتجاهات انسانية في العقاب وليس من شأننا في هذا الموضوع ان نبحث عن الاسباب التي جعلت الفراعنة، كمجتمع شرقي، مضربا للمثل في القسوة عند العقاب في حين ان المجتمعات الغربية شهدت قبل استفادتها من هذا الاتجاه الفرعوني ممارسات عقابية بدنية لم يشهد التاريخ مثيلا لها في القسوة على الانسان منها: تحطيم عظام المحكوم عليه بالاعدام على آلة الدولاب، الجلد المبرح علنا في الأسواق والطرقات، تجزئة جسم المحكوم عليه بالاعدام قطعة قطعة حتى الموت، جدع الأذن والأنف والشفاه، بتر الاطراف، خلع مفاصل من حكم عليه بالتعويق بواسطة أداة تسمى المخلعة والتي بدأ استعمالها في بريطانيا عام 1417م واستمر حتى عام 1628م ليموت المحكوم عليه او يعيش معوقا، دفن الجناة احياء حتى عام 1400م، اجلاس الجاني على خازوق يخترق احشاءه على مهل ليذوق اصنافا من طعم العذاب حتى الموت، التشهير بالجاني بإجلاسه مكبلا في الطرقات وغيرها من الأماكن العامة، وضع الجاني في جهاز يسمى العذراء الحديدية وهو عبارة عن غرفة بشكل تابوت ثبتت على جميع جوانبها من الداخل مسامير حادة ثم يتم شد هذه الغرفة شيئا فشيئا حتى تخترق تلك المسامير جسمه من جميع الجهات، حجز المسجون انفراديا في غرفة لا تزيد أطوالها على متر ونصف المتر، تعليق ثقل مناسب بأرنبة الانف بواسطة مشقبية حادة وتحريك هذا الثقل عند التحقيق لاجبار المتهم على الاعتراف، شد الابهام وطرق أو سحب الأظافر، ربط الجاني الى حصانين يجريان في اتجاهين متعاكسين، تعريض الجناة للوحوش والتماسيح، القاء الجناة في زيت يغلي، شد وطرق أجزاء أخرى من جسم الجاني ليس من المناسب ذكر اسمائها في هذا المقام. اما التعذيب النفسي فتتبع لممارسته طرق أخرى ومنها: التحدث بين شخصين أو أكثر امام المسجون عن ما سينزل به من عقاب أو ما سيلحق به من ضرر ان لم يعترف بما نسب اليه، تذكير المسجون بأبنائه وذويه والايحاء له بما سيلحق بهم من ضرر وما يعانونه من قسوة العيش والحرمان وتعرضهم للاعتداء من الآخرين، منع المسجون من التحدث مع الآخرين أو الاجتماع بهم عن طريق الابقاء عليه محجوزا، انفرادياً ومعزولا، عن جميع مظاهر الحياة الاجتماعية لمدة قد تصل الى عامين، الحرمان من النوم وقضاء الحاجة، التهكم والتنكيت على المسجون وتبخيسه والاستخفاف به والضحك المفتعل على هيئته، ايهام المسجون بأن شيئا قد تغير في صحته أو لونه أو شكل وجهه، حرمان المسجون من الحصول على أي معلومات تتعلق بسير قضيته، التهديد والوعيد من قبل المحققين والقضاة للرفع من حدة انفعالات السجين. وفي غمرة ذلك وغيره من الأساليب يقدم كثير من السجناء الأبرياء او من لا تستحق قضاياهم ما أثير حولها من تضخيم على الانتحار أو الاعتراف بما نسب اليهم من تهم وان كانوا ابرياء منها عندما يشعرون ان الموت اهون من المعاملة التي يتعرضون لها, وقد كان المحققون الغربيون يلجأون الى هذه الوسائل وغيرها لأنها أقصر الطرق الى اعتراف المتهم المسجون حتى لا يبذلون جهدا في جمع الأدلة ولكي يتظاهر المحقق بالمهارة والنجاح في كشف الحقيقة في مدة قصيرة مكتفيا بقاعدة جنائية وقضائية تقول: الاعتراف سيد الأدلة على الرغم من ان هذا المبدأ أو هذه القاعدة فاشلة وغير صحية بكل المقاييس لا في الماضي ولا في الحاضر ما لم يدعم المحقق اعتراف المتهم بالأدلة والبراهين القاطعة وبخاصة في الجرائم الكبيرة لأن دوافع الاعتراف كثيرة ومن أهمها في العصر الحديث: التضليل، تحمل المسؤولية عن شخص يدين له المتهم بالولاء، حب الشهرة الاجرامية لدى المضطربين نفسيا، العمليات الاستخباراتية التي يكون التضحية فيها بشخص او عدد من الأشخاص أو حتى بأمة من الأمم افضل عند معتنقي المبدأ الميكيافيلي من كشف عمليات وأسرار اجهزة المباحث والاستخبارات. والأمر المؤكد ان عقوبة السجن في الغرب كانت تهدف الى اقصاء الجناة عن المجتمع في أماكن قذرة ومظلمة ومنعهم من مزاولة أي نشاط مما يؤدي الى اصابتهم بأمراض خطيرة منها السل، والرمد، والترهل، ولين العظام، والعمى, ومن تلك الأماكن السجون المنشأة في انجلترا عام 1533م وما يسمى بالبيوت الخشنة في امستردام عام 1595م ولم يكن الايداع في هذه الدور وأمثالها يهدف إلى الاصلاح بمعنى ان الحكم على الشخص بالسجن لا يهدف الى اقصائه ليموت في السجن أو يُعدم أو يصاب بعاهة عضوية او عقلية تحد من نشاطه. أما في المجتمع الاسلامي فمن نافلة القول ان عقوبة السجن كانت احدى العقوبات التي طبقت في جميع العهود الاسلامية بغرض الزجر الذي هو بمعنى الاصلاح، وان التطبيق الاسلامي لهذه العقوبة كان اعدل من التطبيق الغربي، فمدد السجن في المجتمع المسلم قصيرة جدا، وكان ضمان حقوق الآخرين أو الوفاء بها كافيا لاطلاق سراح المسجون دون اضافة أعباء المحاكمة أو المرافعة أو أعباء أخرى على المسجون, وكانت توبة المسجون وكفه لأذاه واعلانه الندم شرطا كافيا لاطلاق سراحه كما حدث من الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما سجن الشاعر الحطيئة, والحكام المسلمون يزورون السجناء ويتعهدون أسرهم بالرعاية، ويجرون على السجين وأسرته من العطاء والصدقات ما يكفيهم ويسد عوزهم وتاريخنا مليء بالوقائع التي تثبت ان عقوبة السجن عند العرب والمسلمين كانت تهدف الى الاصلاح لا الاقصاء والاهانة والتعذيب النفسي والبدني، كما ان تاريخ الغرب مليء بالوقائع والحوادث التي يمكن لكل باحث جاد في الوصول الى الحقيقة ان يستخلص منها البراهين على ان مفهوم السجن كوسيلة للاصلاح وتأهيل المسجون للعودة الى مجتمعه عضوا صالحا لم يظهر الى الوجود في المجتمعات الغربية الا في أواخر القرن الثامن عشر في اعقاب حركة الاصلاح التي نادى بها Montesqueu وJ.J. Rousseau وBeccaria وJ. bentham فقد كانت آراؤهم متفقة على ضرورة العدول عن العقوبات التي تقصد اهانة الانسان والانتقام منه أو استئصاله، ويعزي ظهور هذا الاصلاح التشريعي في الغرب في اعقاب الثورة الفرنسية؛ إلى تأثير آرائهم وبالتالي صدور اعلان حقوق الانسان سنة 1789م وصدور القانون الفرنسي سنة 1791م وفيه حددت الجرائم والعقوبات بدقة عملت على التخلص من كارثة الاجتهادات الشخصية للقضاة في اصدار الأحكام دون الأستناد إلى قانون محدد، ولم تتبلور فكرة السجن الاصلاحي في أمريكا الا في نهاية الربع الأول من القرن العشرين وبالتحديد في عام 1825م في أعقاب جهود العالم جون هورد المتوفى سنة 1790م. وكانت فكرة الاصلاح آنذاك تقوم على السماح للمسجون بممارسة أنشطة اصطلح على تسميتها بالأشغال الشاقة ولكنها تشكل هي الأخرى عقوبة مركبة وتصاحبها قواعد صارمة مثل منع الاتصال بالآخرين حتى بالاشارة أو النظر وفرض نظام الصمت المطبق, وبصورة اجمالية يمكن القول ان الاتجاه الانساني الغربي في العقاب والمتمثل في عقوبة السجن وما يصاحبها من برامج اصلاحية قام على انقاض العقوبات المحطة لكرامة الانسان والتي كانت تطبق في الغرب عبر العصور القديمة والوسطى والحديثة حتى القرن الثامن عشر,, وحتى لو لم تصاحب هذه العقوبة أي برامج اصلاحية وهذا هو الواقع في بداية تطبيق الغرب لهذه العقوبة فان الغربيين قد نظروا إلى عقوبة السجن على انها اتجاه انساني في العقاب مهما كانت الظروف الموروفولوجية للسجن قاسية قياسا منهم على العقوبات البدنية والنفسية التي كانت سائدة في مجتمعاتهم في كل العصور حتى القرن الثامن عشر. وكما اقتنع أهل الغرب في القرن الثامن عشر ان العقوبات البدنية والنفسية الموروثة عن العصور الغابرة قاسية جدا هاهم اليوم يقتنعون ان عقوبة السجن قاسية ويبحثون عن عقوبات اخف منها لمواجهة جرائم كانوا يحكمون على من اقترفها بعقوبات العصور القديمة والوسطى آنفة الذكر، تلك العقوبات التي ما زال البعض منها مطبقا في كثير من دول العالم حتى اليوم من حيث الأثر والنتيجة وان اختلفت بعض أساليب التنفيذ، وهاهم في الغرب يجددون قوانينهم ويضمنونها بدائل للعقوبات بعامة ويطبقونها في مواجهة ما اظن ان نسبته تصل إلى 60% من الجرائم في اطار ما يسمى ببدائل الاجراءات الجنائية والعقابية,, بناء على معطيات علم الاجرام وتجارب وبحوث نفسية واجتماعية اثبتت لهم ان تلك البدائل تعطي مردودا افضل من عقوبة السجن في مجال الوقاية من جرائم العود وأراهم قد اصابوا وافلحوا في ذلك إلى حد كبير. وليس هناك تناقض بين هذا التوجه الغربي نحو التقليل من استخدام عقوبة السجن وحقيقة ان الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون قد ركز في حملته الانتخابية على وعده للناخبين بالتوسع في مجال انشاء السجون لان الحاجة إلى هذا التوسع تعود الى عوامل كثيرة ولابد عند الرغبة في تحديد مدى الحاجة الى التوسع في مجال انشاء السجون أو التوسع في استخدام عقوبة السجن من اخضاع تلك العوامل للدراسة والتحليل الاحصائي، فالعلماء يؤكدون على وجود ارتباطات قوية بين عوامل كثيرة من شأنها التأثير على دقة تحديد مدى هذه الحجة ويؤكدون أيضاً على ان الاحصاء هو الفيصل في هذه الأمور ومنهم الدكتور صالح بن عبدالله المالك كما جاء في كتابه أصول علم الاجرام حيث يقول: تفيد احصاءات الجريمة من نواح كثيرة، وتطبيقية واصلاحية ,,, فلا يمكن التعرف على حجم الجريمة في المجتمع الا بتحليل احصاءاتها ومقارنتها باحصاءات السكان، لان القاعدة الاحصائية تقتضي نسبة عدد من الجرائم إلى عدد السكان ,,, وتشير الاحصاءات إلى ان مشكلة الجريمة مشكلة حضرية أكثر منها ريفية ,,, لأن الحياة الحضرية اعقد من الحياة الريفية على وجه العموم ,,, الأمر الذي يجعلها في حاجة ماسة إلى قوانين ولوائح متعددة ,,, ومن الممكن عن طريق الحقائق المستفادة من احصاءات الجريمة رسم سياسة اصلاحية على أسس واقعية وليست مفترضة، وكذلك الشأن في الناحية التطبيقية سواء على المستوى الوطني أو القومي أو العالمي . للتواصل الفكري ص,ب 36236 الرمز 21419 جدة