إلهام مانع أكاديمية عالمية اختلط فيها كل شيء (اليمني بالكويتي بالمصري بالسويسري)، وهذا جعلها تحنو نحو الإنسان أكثرَ وتجعله مذهبها ومنهجها التفكيري والحياتي. هي جريئة إلى حد لا تتحمله الثقافة العربية وتدين بذلك لأبيها الديبلوماسي الذي منحها الحرية على رغم قهره لأمها، وتدين للمجتمع الأوروبي أن منحها فرصة البحث والتفكير. بعضهم يرى أن إلهام مانع لا ثوابت عندها ولا احترام لمقدسات أو أعراف وهي ترى أنها تحترم عقلها وليست مجبرة على تصديق ما لا تؤمن به، وعلى رغم اختلافنا معها في بعض الآراء إلا أننا نقف حائرين أمام بعض حججها لبعض ثوابتنا الدينية والاجتماعية. على رغم حياتها في سويسرا إلا أنها لا تنسى أنها عربية يمنية، ولا تزال تسمع أنين شكوى بنات جنسها في المنطقة وتمنحهن قلمها ومواقفها هنا وهناك ... فإلى تفاصيل الحوار: ولادة في مصر، ودراسة في الكويت، عمل في صنعاء.. وحياة في سويسرا.. ترحال بين هنا وهناك... كيف تبدو تفاصيل إلهام مانع بعد كل هذا؟ - متناسقة ومتصالحة مع ذاتها. بدوية عالمية، هكذا أصف نفسي دوماً. ووصفي لا يبتعد كثيراً عن الواقع. فالعالم كله وطن لي، والإنسان هو جوهره. وجدت الإنسان في كل مكان ارتحلتُ إليه، وأحببته كما آلمني. الإنسان هو الإنسان، هنا أو هناك، في الحب الذي فيه، وفي تحيزه وتعصبه والأذى الذي قد يتسبب به. التمرد الذي يتلبّسك... هل هي سمة يمنية خالصة؟ - بل إنسانية خالصة. لكني أعود وأقر بأن من يحيا ولو لسنوات في شبه الجزيرة العربية، وفي حالتي أنا في اليمن تحديداً، لا محالة سيتعلم كيف يكون التمرد. ولو كنتَ امرأة، لأدركت بالتأكيد ما يعنيه أن تحيا في مجتمع يقول لك صباح مساء أنك أدنى، في العقل وفي الدين، ويدعوك لقبول دونيتك بابتسامة رضية، ثم يسميك الشقيقة. بعد هذا، سيكون عليك أن تختار: إما أن تبتسم ابتسامة رضية، وتصمت، أو تتمرد، ولن يضيرك كثيراً لو ابتسمت وأنت تتمرد. ابنة ديبلوماسي... هل منحك والدك الفضاء الذي تنطلقين منه الآن؟ - نعم، ومنحني والدي أكثر من ذلك. آمن بي دوماً منذ نعومة أظفاري، وكان وما زال فخوراً بي في مجتمع ينظر إلى المرأة على أنها خزي وعورة، والأهم أنه وهبني الإحساس بأني حرة، قادرة على أن أكون، وأن أُحلّق بأجنحتي حيث أشاء. وعندما أتأمل اليوم في طريقة تربيته لي، أدرك أنه كان يحارب وحيداً ضد قيم مجتمعية ترفض ما يقوله لابنته، وأن محبته لي وإيمانه بي وهباه القوة كي يقول لي: كوني، كما تريدين. هذا لا يعني أنه لم يكن أبوياً - وعفواً أبي - متسلطاً، في طريقة تعامله مع أمي، وربما كان هذا التناقض في تعامله معي ومعها السبب الحقيقي الذي جعلني لا أكره الرجل، بل أنظر إلى تناقضاته وأواجهه بها. المرأة في سيرتك العائلية... ما ملامحها؟ - الصامتة، التي تصرخ بعينيها، تدعوني ألاّ أستسلم لمصيرها، والطموحة التي كانت تريد أن تحيا، لكنهم دفنوها حية، لأن المرأة يجب ألا تحيا، والصغيرة التي اغتصبها القريب، ثم قالوا إن اغتصاب الطفل لا يحدث إلا في الغرب، ثم القريبة التي زوّجوها طفلة. وقالوا إنها بلغت بما فيه الكفاية فاغُتصبت بحكم القانون، والطيبة التي تقبل بما يجري لها، وتبتسم وهي راضية، والقوية التي تصر على أن تكون، وتشق طريقها وهي مصممة، ملامح المرأة في سيرتي العائلي رسمها الألم والأمل على حد سواء. الأقسام السياسية هل من تشابه بين الأقسام السياسية في الجامعات التي مررت بها؟ - الاختلاف يتبدى في المناخ العلمي القائم والموارد المتاحة للبحث العلمي. في جامعة الكويت التي حصلت منها على بكالوريوس العلوم السياسية كانت الميزة الأساسية هو وجود أساتذة كبار مصريين وكويتيين، تعلمت منهم الكثير، على رأسهم الدكتور كمال المنوفي، إسماعيل صبري مقلد، وأحمد البغدادي، وغانم النجار على سبيل المثال لا الحصر. على رغم ذلك فإن المناخ الثقافي السائد كان يضع قيوداً على ما يمكن مناقشته، وخطوطاً حمراء يدركها كل من يعمل هناك عما لا يجب المساس به. وأذكر أن بعض أساتذتي كانوا يختارون ألفاظهم بعناية عندما يبدأون في الحديث عن بعض الأنظمة السياسية العربية. هذا (القيد الذاتي) لا يوجد حيث أعمل في معهد العلوم السياسية في جامعة زيوريخ، أو في معهد دراسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية في جامعة برن. وأعطيك مثالاً، أذكر في ندوة أقامتها جامعة زيوريخ عن اليمن قبل نحو عام ودعيت إليها مع السفير اليمني في المقر الأوروبي للأمم المتحدة، أذكر رد فعله المندهشة والمنزعجة تجاه التحليل الذي عرضته عن الوضع في اليمن، وطبيعة الهيكل السياسي للنخبة الحاكمة. ما فعلته لم يتعد تحليلاً منهجياً علمياً لم يلتزم بمستلزمات (الرقابة الذاتية) التي اعتدنا عليها في بلداننا العربية، فجاء حديثي مزعجاً مقلقاً. على صعيد آخر، في اليمن، في جامعة صنعاء حيث عملت، كانت هناك نخبة من الأساتذة اليمنيين الذين تحصلوا على درجات علمية من جامعات أكاديمية غربية مرموقة، لكنهم جميعاً كانوا يواجهون قلة في الموارد والإمكانات، التي أثّرت حتماً في إمكانات البحث العلمي، وعلى أدائهم. لاحظتُ الفرق. وأكاد أقول، صدمني الفرق عندما حصلت على منحة الفولبرايت وذهبت إلى الولاياتالمتحدة لدراسة الماجستير ثم تحولت إلى جامعة زيوريخ في سويسرا للحصول على الدكتوراه. تلك جامعات تسعى سعياً إلى توفير البيئة الملائمة للباحث أو الباحثة كي ينجزا عملهما على أكمل وجه. الصحافة والكتابة الأدبية... ماذا تجدين فيهما؟ - الهواء الذي أتنفسه. ولا أقول ذلك لأن وقع الجملة جميل، فكثيراً نقول ما لا نعنيه، بل لأنهما فعلاً الهواء الذي أتنفسه. البحث العلمي أحبه وأستمتع به، ولا سيما عندما يتعلق بمواضيع بحثية تهمني، لكن مقال الرأي الصحافي، والكتابة الأدبية، يبعثان في الحياة، وبهما أستشعر نبضها. أنا لا أكتب في هذين المجالين إلا عندما أشعر بانفعال، غضب، أو أمل، أو فرحة، أو خيبة، وعندما يحرقني الإحساس، تخرج الكلمات مندفعة. من يُسمَح له بأن يُخفضَ صوتك؟ ومن يقدر على أن يمنحك لسانين؟ - صوتي ليس عالياًَ. ستجده هادئاً منخفضاً، لكنه حاد، ينغز بالدبابيس، ومباشر، لا «يلف» ولا يدور، ثم لا يرقص حول الفكرة، يقول الرأي كما يؤمن به. ولساني واحد، حتى وهو ينطق بلغات ثلاث. وكلاهما الصوت واللسان يتماوجان في نغم متصالح عندما أكون مع من أحب. تحملين الجنسيتين اليمنية والسويسرية... ألهذا تملكين أنتِ جناحين؟ - بل أحمل عالمين وثقافتين في حناياي، ولأنهما بضعاً مني، لا يتجزآن، أصبحت جسراً بينهما. من زهرة برية يمنية إلى نبتة ظل سويسرية... هل الأمر مكلف؟ - في صدى الأنين قلت إني نخلة زُرعت في جليد سيبيريا. ثم عدت وقلت إني جني وُضع في قمقم. اليوم أعود وأقول بل زهرة برية، لا يمنية ولا سويسرية، بل إنسانية. ولأني اخترت الإنسان في قناعاتي، أجدني أقف دوماً على حبل رفيع، أمشي عليه، ساعيةً طوال الوقت ألاّ أخل بتوازني وأنا فوقه، كي لا أخون مبادئي. الأمر ليس مكلفاً أيها العزيز، بل صعباً، وفي أحيان كثيرة يكون مؤلماً، لأني أضطر إلى اتخاذ مواقف والتعبير عن آراء أعرف جيداً أنها تؤلم من أحب، وقد خسرت فعلاً أناساً أحببتهم كثيراً. العلمانية المؤمنة علمانية مؤمنة... تصنيف تقدمين به نفسك كلما ثارت الأسئلة حولك... هل هو خلاص ومخرج أم هو شيء آخر؟ - بل هو تعبير يصف موقفي. صدقني ليس خلاصاً أو مخرجاً، هكذا أفكّر، وأدري أننا في مجتمعاتنا العربية كثيراً ما نداري على مواقفنا خوفاً من التداعيات، فنقول ما لا نؤمن به. أنا تصالحت مع نفسي، ومع الإيمان، ولا أقول الدين. علمانية أنا، بمعنى أني على قناعة بأن إصلاح مجتمعاتنا لن يتحقق دون فصل الدين عن الدولة، في دساتيرنا، قوانيننا، وبالتحديد قوانين الأحوال الشخصية، ثم في طريقة تفكيرنا، وأساليب عملنا. أي إصلاح يتجاهل هذا الشرط، لن يجد. ومؤمنة، بمعنى أني أدرك أن هناك حيزاً وفضاءً داخلي يتوق إلى الروحانية،ولا يكتفي بالمادة أو العقل. هذه الروحانية لا أخجل من إشباعها. وصدقني، أحياناً أمشي ساعات طوال في الطبيعة السويسرية، وحدي، صامتة، أصغي السمع إلى صوت الشجر والطيور ثم الريح، وأعود إلى بيتي مطمئنة. الشأن اليمني عندما يشاع ويطيش أمره على ساحاتنا... هل يجب أن نبقى متفرجين؟ - لا. عندما يشاع الشأن اليمني ويطيش أمره، يجب ألا نبقى متفرجين. ولا أعني بذلك فقط دول شبه الجزيرة العربية. السؤال هو: كيف يكون التدخل؟!.. رأيي أن توسيع النطاق العسكري للأزمة في صعدة سيؤدي إلى تعقيدها، وتوسيعها على مستوى إقليمي، تتحول فيه صعدة إلى ساحة للقتال بين القوى الإقليمية في المنطقة. هذا لن يؤدي إلى نزع فتيل الأزمة. لو تذكر الحرب التي دارت في عُمان في ظفار في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، ستدرك أن النظام العماني تمكن من التعامل معها بصورة ناجعة لأنه: عمد إلى بناء مؤسسات دولته بصورة مكنته من الإيفاء بالتزاماته تجاه مواطنيه، أعلن عفواً عاماً عن المقاتلين في حرب ظفار، ثم عمد إلى تجنيد المستجيبين لندائه في جيش، أعيد نشره في المناطق القبلية التي ينتمي إليه هؤلاء المقاتلون، ثم طبق خطة تنموية في المناطق المتضررة، رفعت من المستوى المعيشي للسكان واستجابت لمطالبهم. لا أرى إمكانية لحل المشكلة في صعدة من دون اتخاذ خطوات مشابهة. بين شمال اليمن وجنوبه، خنادق ومصائد... كيف الخلاص؟ - أنا آخر من يدعو إلى تشطير اليمن، وكنت وما زلت مؤمنة بوحدة اليمن. لكن الإيمان شيء، ومعطيات الواقع شيء آخر. المؤسف أن المحافظات الجنوبية وصلت في الفترة الأخيرة إلى مرحلة أصبحت تنظر فيه إلى الوحدة على أنها احتلال شمالي. وصف هذه المشاعر بأنها انفصالية لن يحل المشكلة، بل يجب التعامل معها بجدية، وإيجاد حل لها. الحراك الجنوبي في المقابل منقسم إلى جانبين، جانب يدعو إلى فيديرالية، وآخر يدعو إلى الانفصال، والجانبان وقفا متواجهين في الحرب الجنوبية عام 1986م. الانقسام إذاً يبدو أيضاً في هذا الجانب. رأيي أن حلاً جذرياً للأزمة يتطلب الإقرار بحدوث أخطاء جسيمة من المنتصرين في نتائج الحرب الأهلية لعام 1994م، إعادة النظرفي نتائجها، ثم اتخاذ خطوات تعيد لسكان المحافظات الجنوبية الإحساس بأنهم جزء من هذه البلد، وليسوا ضيوفاً فيه. كيف قرأتِ انضمام اليمن لمجلس التعاون الخليجي؟ - لم تنضم بعدُ. أنا في الواقع مع انضمام اليمن لمجلس التعاون الخليجي، فرأيي أن من مصلحة دول المجلس قيام يمن مستقر قادر على توفير حاجات مواطنيه والإيفاء بها. لأن أي واقع آخر لليمن لا محالة سترتد آثاره على دول الجوار. ما يحدث في أزمة صعده اليوم هو مثال على ذلك. لعله حان الوقت لدول مجلس التعاون الخليجي أن تقلب صفحة الموقف اليمني الداعم لصدام حسين خلال احتلاله للكويت، والنظر إلى المستقبل، لأن مصيرها واليمن متلازمان. الاعتماد على قوة الدين... هل يجعل الحكومات تكسب؟ - بل ستكون هي الخاسرة على المدى البعيد. كل الأنظمة العربية بلا استثناء تعمد إلى استغلال الدين وتجييره في صراعها للبقاء في السلطة. الإسلام السياسي وتوظيف الدين... هل هي لعبة؟ - ليست لعبة، بل مصالح وسعي إلى السلطة. الاسلام السياسي بحركاته وتياراته المختلفة لا يمثلون في نظري سوى حركات سياسية تستخدم الدين، توظفه، ثم تستغله للوصول إلى السلطة، هذا هو هدفها. الدين بالنسبة إليها هو غطاء، لكن لو نزعت هذا الغطاء، لن ترى سوى مصالح آنية. وهي تستخدم شعارات مثل «الإسلام هو الحل»، «وضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية»، لأنها شعارات فضفاضة، تلعب على مشاعر الجماهير، ثم توظفها لمصالحها. شعوبنا طيبة، تحب الله، وتصدق من يقول لها إنه يتحدث باسم الله. الإسلام السياسي في توظيفه للدين يذكّرني كثيراً بالأحزاب الفاشية واليمينية المتطرفة التي نراها اليوم في أوروبا، التي تقدم لجماهيرها شعارات فضفاضة سهلة، وتلعب على مخاوفها، وهدفها الوصول إلى السلطة لا غير. الديموقراطية ومستقبلها في العالم العربي... هل هو مجرد حلم؟ - ليس فعلاً، بل هي ممكنة، لكن إمكاناتها مرتبطة برغبتنا نحن في التغيير. في دراسة أكملتها منذ فترة قريبة، وقدمتها إلى مجلس جامعة زيوريخ للحصول على درجة أستاذ، وستنشر في كتاب مستقبلاً، تحدثت عن سياسات النوع في البلدان العربية، وكي أفعل ذلك كان ضرورياً أن أفكك طبيعة نظام الدولة العربية، وتوصلت إلى نتيجة أن طبيعة الدولة العربية هي التي تقف عقبة أمام إمكانات تطورها وقيام أنظمة ديموقراطية فيها. فلأن النخب السياسية الحاكمة فيها تفتقد إلى الصدقية فإنها تسعى إلى تعويض ذلك من خلال الاعتماد على قوى اجتماعية تقليدية (قبلية، دينية، إقليمية، طائفية...). وهذا الاعتماد يؤدي إلى تقوية فئات في المجتمع ضد فئات أخرى، وهو ما ينعكس على استمرارية التشرذم المجتمعي في الدولة العربية، وغياب الإحساس بالهوية الوطنية. وأنت أدرى، الشرط الأول لقيام ديموقراطية هو وجود حد أدنى من هوية وطنية تجمع بين مواطنيها ضمن بوتقة واحدة. الاسلام في الغرب ما مقومات نجاح زرع وجود الجاليات الإسلامية في الجسد الغربي؟ - زرعها لن يُجْدِ طالما تصر على أنها تحتفظ (بخصوصية ثقافية) تتناقض مع قيم المجتمع الذي اختارت أن يكون وطناً لها. هذه (الخصوصية) أصبحت ذريعة تستغلها بعض الجاليات، ولا أقول الكل، كي تبني مجتمعات موازية في المجتمعات الأوروبية وشمال أميركا، تمارس فيه عمليات الزواج بالإكراه للفتيات والشباب، على حد سواء، وترتفع فيه نسبة الاعتماد على الضمان الاجتماعي، بدلاً من العمل، ويصر أعضاؤه على أن ولاءهم ليس لوطنهم الذي اختاروه. مقومات النجاح تستلزم اقتناع بالانتماء إلى الدولة التي اختار المهاجر الإقامة فيها، العمل فيها عضواً نافعاً، واحترام قيمها وقوانينها، والإلتزام بها. ما الفرق بين الرؤية الأوروبية والأميركية تجاه القضايا العربية؟ - ما دامت دولاً، فإن رؤيتها تتحكم فيها مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية. يوم أن ندرك ذلك، سنكف عن الإحساس بالظلم الذي يتملكنا كلما تحدثنا عن «الغرب» وعن «استغلال الغرب»، بل سندرك أن كل دولة تحمي مصالحها. حبذا لو تعلمنا نحن أيضاً فن حماية مصالحنا. هل هناك عدوى تطرّف تنتشر في العالم؟ - نعم هناك تطرّف ينتشر في العالم. ليس التطرّف إسلامياً فقط، بل تجده ايضاً في بعض الصفوف المسيحية، واليهودية، والهندوسية،... فاشية... ويمينية إلخ. ولذلك هناك تخصص علمي اسمه التطرّف المقارن. ولو قارنت بين التطرّفات الدينية، بغض النظر عن الدين، ستجد أن هناك ملامح مشتركة تجمعها، أهمها أنها تصر على انها التفسير الأوحد الصحيح للدين، وترفض الآخر، ثم تصر على قهر الفرد والسيطرة على سلوكه، والتركيز على الخوف في علاقة الانسان مع ربه. المؤسف أن هذه الرؤية للدين بدأت تنتشر في مجتمعاتنا العربية وتتوسع قاعدتها الشعبية، بعد أن كانت معبرة عن رؤية أقلية. الإصلاح السياسي... من أين يجب أن يبدأ؟ - من دوائر ثلاث، الدولة، الدين، العائلة، فإصلاح الدولة ضروري كي تتمكن النخبة الحاكمة فيها من التقدم برؤية للنهوض بمجتمعها، وهذا الإصلاح يستلزم حتماً علاج مشكلة شرعيتها، كي تتمكن من تطبيق تلك الرؤية على أرض الواقع. الدين يتوجب إصلاحه، والخروج به إلى دائرة التنوير، كي يمكن للفرد والإنسان أن يحيا في المجتمع حراً، وبصورة تطلق طاقاته. والعائلة يتوجب تغيير تركيبتها الأبوية كي تخلق أفراداً متساوين لا يخافون، ويرهبون الأب/الحاكم، وتغييرها يستلزم تغيير قوانين الأحوال الشخصية التي تخلق وضعاً غير متساوٍ في الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة. التأسلم الشعبي وصفت الحال بقولك «التأسلم الشعبي»... هل لنا بتفصيل أكثر؟ - تعبير التأسلم الشعبي استعرته من الصديق المخرج المصري وجيه جورج، وأقول التأسلم الشعبي كي أميزه عن الإسلام السياسي، وأميزه أيضاً عن الروحانية الدينية التي كنا نراها في زمن ماضٍ لدى شرائح كثيرة في مجتمعاتنا العربية. التأسلم الشعبي هي موجة عمت المجتمعات العربية، وهوجة مسعورة، أصبح فيها التركيز على الشعائر والشكليات: كم مرة تصلي في اليوم، وإذا صليت لا تصلي إلا بهذه الصورة، وإذا اكملت فرائضك حبذا لو أكملتها بالنوافل، والنوافل أيضا لا تكفي، غطي شعِرك، أطلق ذقنك، شعرك لا يكفي، أسدلي السواد على وجهك، أمسك المسبحة، وبسمل وحوقل ثم تشدق بالدين والرحمن في كل مناسبة وبلا مناسبة، وقل أنك مؤمن أكثر من غيرك، ثم العن من لا يؤمن كما تؤمن، واعتبره غريباً يستحق النفور. شعائر وشكليات لكن انعكاساتها المجتمعية رهيبة، ولا سيما إذا كانت هذه المجتمعات تتميز بالتعددية الدينية والمذهبية. التأسلم الشعبي يعكس خواءً روحياً وفكرياً، وانسداداً للأفق، وهو وإن اتخذ من الدين جوهراً، فإنه لا يعني أن من يمارسه أصبح أكثر خُلقاً أو إنسانية في تعامله مع الإنسان. أنظر فقط كيف نتعامل مع الضعفاء في مجتمعاتنا، وأولهم من يخدمون في منازلنا، وستدرك ما أعنيه. «المرأة عورة»... هل آمنت المرأة العربية بجريمتها التي لم ترتكبها؟ - هذا صحيح، إلى حد كبير، لكن هل تلومها هي أم المجتمع الذي يقول لها صباح مساء إنها عورة، صوتها، جسدها، كلها، عورة، حبذا لو مسحته من الوجود مسحاً. لكن المرأة العربية ليست الاستثناء في هذا. هنا في سويسرا وقفت كثيرات من النساء ضد مبدأ منح المرأة حق التصويت والمشاركة السياسية، ولسان حالهن، دورنا في بيوتنا. لم يتغير موقفهن إلا عندما تغيرت المناهج الدراسية في مدارسهن، وطرق تربيتهن في أسرهن. كما ترى، الإنسان هو الإنسان، هنا أو هناك. لماذا تكرهين الحجاب؟ - لأنه رمز للقهر. عندما يصر البعض على أن الاسلام يريدني أن أغطي شعري، أتساءل دوماً لمَ لم يصر على تغطية الرجل؟ وعندما يقولون لي أن الرجل ضعيف مسكين، لا يحتمل رؤية جمال المرأة. أتساءل: لم لا يتعلم كيف يسيطر على غرائزه بدلاً من تكفيني أنا بغطاء، يصرون على أنه من الدين. الحجاب هو رمز ل «جنسنة» المرأة وتحويلها جنساً، يخيف ويرعب، ولذا تجب تغطيته. والحجاب أيضاً رمز لتعاملنا مع المرأة على أنها شيء لا يمكن أن نثق فيه، لأنها على استعداد دوماً للنوم مع أي رجل إذا حاول إغواءها، ولذلك نغطيها كي نحميها من نفسها. والحجاب أيضاً رمز سياسي، لأن أول من قال إن المرأة المسلمة يجب أن تتحجب وأن تُعزل عن الرجل هو حسن البنا، مؤسس حركة الإخوان المسلمين في رسالة له باسم «المرأة المسلمة». قبل ذلك كان الحجاب تعبير عن عادة مجتمعية بحتة. أنا لا أرى في جمال المرأة ما يعيب، أو يستحق أن نخفيه، وأحب شعري طليقاً، كما لا أخجل من جسدي، فليس في الجسد ما يخجل. وأرى أن بمقدوري أن أكون، وأتعامل مع الرجل، وأفرض احترامي عليه، من دون حاجة إلى التعامل مع هذا الجسد كما لو كان عاراً يجب مسحه من الوجود مسحاً. هل هناك رعب من خروج المرأة على السطح؟ - بل الرعب هو أن تكون كما تريد. لماذا نهاب التفكير ونؤطر التفكر؟ - لو فكرنا سنطالب بالتغيير، والتغيير يطاول مصالح وأنظمة ومؤسسات دينية. ألا يحق لمن يمسك بزمام هذه المصالح والأنظمة والمؤسسات أن يخاف؟ برأيك... كيف يجب أن نتعامل مع رغباتنا الروحية والجسدية؟ - بالحب ... الله الذي أومن به، هو الله المحبة، نور ومحبة. لا أراه بعبعاً يمسك بسوط، ينتظر الهفوة منا كي ينهال علينا ضرباً وتقريعاً. والله الذي أؤمن به ينتظر من الإنسان أن يتعامل بعقله، وأن يكون مسؤولاً عن نفسه، وعن حياته. وهذا يعني أن يحيا الإنسان بتعمد. وحياته، تماماً كجسده، مسؤوليته. المرأة السعودية عند إلهام مانع... كيف تبدو؟ - المؤسف أننا عندما نتحدث عن المرأة السعودية، لا نراها إلا مغطاة، مقهورة، ممنوعة من قيادة السيارات، هذه الصورة بطبيعة الحال تعكس واقعاً مجتمعياً، لكن المرأة السعودية على رغم كل القيود المجتمعية والقانونية المفروضة عليها، تظل قوية ومتمردة. ترى هذا في كتاباتها الأدبية، وفي حركتها النسائية، وفي الباحثات والأكاديميات. أظن أنه كلما زادت الضغوط على المرء كان أكثر قوة، وأكثر استعداداً للتمرد. عناوين كتبك «خطايا» «صدى الأنين» «سأكسر جدار الصمت»... ألا يوجد شيء في الجانب الآخر تكتبين عنه؟ - ألا ترى أن الصمت هو عنوان حالنا؟ نصمت عن واقعنا، عن المرض، عن الألم، وعن البلايا التي نراها في واقعنا. ونُصرّ على أننا أصحاء، أننا الأفضل، أن حياتنا هي الأروع، وأن الإنسان لدينا هو خير ما وصلت إليه البشرية. إذا لم نكسر جدار هذا الصمت لن يتغير شيء لدينا. أنا أكتب عما يعنيني. قراءتك للخطيئة... كيف تبدو؟ - الخطيئة بل الفاحشة هي أن نقتل الحلم، حلم الإنسان، أما العلاقة بين الرجل والمرأة فلا أقحم فيها مفاهيم الخطيئة والخطأ والعيب، هذا وأحب أن أشير إلى أني متزوجة وسعيدة في زواجي، كي لا يهرع البعض، ولا أقول الكل، من مثقفينا الذكور العرب إلى التعبير عن «إعجابهم الشديد بتحرري»، ثم مطالبتهم ب «تطبيق هذا التحرر على فراشهم». أكثر الرجال تناقضاً هم بعض مثقفينا العرب، الذين يستخدمون «حقوق المرأة» و«حريتها» كعلكة يمضغونها، ولا يعيشونها واقعاً. هل تنصحين كل امرأة مقهورة بالهجرة إلى الغرب؟ - لا... لو فعلتْ لن يحدث التغيير في مجتمعاتنا. بقاؤها ضروري، وتمردها أيضاً. تخيل كيف تكون اليمن لو قررت أمل الباشا وأروى عثمان ورؤوفة حسن الخروج منها؟ وأدري أنه من الصعب علي أن أقدم رأياً في هذا، وأنا أول من خرج من اليمن، لكن خروجي كان له أسبابه ومعطياته، وصدقني أني كنت أشعر أني أختنق وأنا هناك، بقائي فيها كان سيكون انتحاراً. بعد أن خرجت منها، اكتشفت أني أحبها، ولأني ما زلت أحبها، أكتب عنها وأدرسها، تماماً كما أُدرس طلابي عنها. فأنا، أيها العزيز، لم أسلخ جلدي بعد.