يسود شبه إجماع في ضوء تداعيات أزمة المال العالمية، على أن الأوضاع الاقتصادية والمالية في العالم لن ترجع إلى ما كانت قبل نشوب الأزمة. لذا نتوقع أن تتم مراجعات مهمة للممارسات التي كانت سائدة، سواء على صعيد الاقتصاد العالمي في شكل عام أو على صعيد قطاعي المال والمصارف في شكل خاص، ما يؤدي إلى ممارسات اقتصادية ومالية ومصرفية جديدة. ولا نستبعد من خلال مراجعة هذه الممارسات أن يؤسس لنظام اقتصادي مالي ومصرفي جديد. فعلى صعيد النظام الاقتصادي العالمي، أثارت الأزمة تساؤلات حول قدرة منهج نظام الاقتصاد الحر في ضبط العلاقات والتعاملات الاقتصادية ذاتياً من دون الحاجة إلى تدخلات لتصحيح اختلالات قد تصل إلى مستويات خطيرة. كذلك لا يزال، موضوع الاختلالات المالية Financial Imbalances على صعيد العالم، يثير تساؤلاتٍ حول السلوك الاقتصادي العالمي المطلوب لمعالجة مثل هذه الاختلالات. ولا تزال العلاقة على صعيد التجارة العالمية من دون انفراج، بحيث أن محادثات جولة الدوحة للتنمية لم تشهد للآن التقدم المأمول. وبدأنا نشهد أيضاً، وفي شكلٍ ملموس، تحولاً في موازين القوى الاقتصادية، وما يترتب عليه من حاجة إلى إعادة ترتيب التمثيل على المستوى العالمي. هذا ينطبق أيضاً على طبيعة مؤسسات المال العالمية ودورها، في ما قد تطلع بمسؤوليات جديدة في مرحلة ما بعد الأزمة الحالية. نتطرق ضمن هذا الإطار أولاً ولو بشكل موجز إلى التغييرات والمراجعات المتوقعة على أثر الأزمة المالية في مجال العلاقات الاقتصادية الدولية. أولاً: التغييرات والمراجعات المتوقعة على صعيد النظام الاقتصادي العالمي. لا شك في أن الأزمة المالية التي طاولت جميع دول العالم تقريباً، - ولم تنحصر تداعياتها فقط في القطاع المالي والمصرفي، بل انتقلت وامتدت إلى الاقتصاد الحقيقي، - أثارت تساؤلات تتصل بالنظام الاقتصادي العالمي والعلاقات الاقتصادية الدولية. فمن ناحية، أثير تساؤل كبير حول مدى قدرة نظام الاقتصاد الحر وكفاءته في ضبط التعاملات الاقتصادية في شكل ذاتي ومن دون الحاجة إلى أية تدخلات مهمة. فما حصل إثر الأزمة أن نظام اقتصاد السوق لم يتمكن تلقائياً من تصحيح الاختلالات التي بلغت مستويات خطيرة ما اضطر دولٌ، إن لم يكن جميعها، إلى عدم الاعتماد على نظام السوق في تصحيح الاختلالات بل لجأت إلى التدخل بإجراءات إدارية مهمة على صعيد كل من السياسات النقدية والسياسات المالية، وحدّت من تدهورٍ عميق كان يمكن أن تبلغه الأوضاع المالية والاقتصادية لولا هذه الإجراءات. فهل ما حصل يمثل استثناءً نادراً لآليات اقتصاد السوق أم أنه مؤشر مهم لخلل هيكلي في هذا النظام يتطلب العمل على إصلاحه والسعي الجاد إلى تلافيه؟ هذا لا يعني بالضرورة وجود بدائل كثيرة أفضل لنظام اقتصاد السوق، لكن ما لا يدرك جله لا يترك كله. فقد يكون المطلوب مجرد إصلاح للنظام وليس بالضرورة استبداله تماماً. لكن توجد جوانب أخرى في مجال العلاقات الاقتصادية الدولية تحتاج إلى مراجعات في ضوء تداعيات أزمة المال، منها العلاقات التجارية الدولية التي لا تزال تراوح مكانها، إذ كان يُفترض أن تستكمل مفاوضات جولة الدوحة للتجارة أهدافها منذ أكثر من سنتين. إلا أن السياسات التجارية، بخاصة المطبقة لدى الدول الصناعية، لم تُبدِِ المرونة اللازمة للتوصل إلى انفراج في هذه المفاوضات. إن الأزمة المالية أوضحت من خلال النزعة الحمائية التي لجأت إليها مؤخراً دول صناعية، أن موضوع تحرير الاقتصاد وحرية التجارة لا يبدوان قناعات راسخة بقدر يعبران عن مواقف تتغير وفقاً لطبيعة المصالح الوطنية الضيقة ووضعها. ولا تزال دول صناعية كثيرة تمارس سياسات تجارية حمائية تتعارض مع أهداف جولة الدوحة في تحقيق مزيد من الحرية التجارية. تُضافُ إليها سياسات الإعانة والدعم الكبير الذي تقدمه الدول الصناعية إلى القطاعات الاقتصادية غالبيتها غير مجدية، وبالذات إلى منتجاتٍ زراعية في مواجهة المنتجات الزراعية للدول النامية التي تمثل المصدر الأهم للدخل في غالبية هذه الدول. إن استمرار مثل هذه الأوضاع أضر كثيراً بأوضاع شعوب الدول النامية بخاصة في ضوء تداعيات أزمة المال التي زادت من سوء أوضاع المزارعين بسبب تدني أسعار المنتجات الزراعية وضعف الاستثمارات الأجنبية وانخفاض تمويل التجارة وانخفاض معدلاتها ومستوياتها في المنتجات الزراعية. لذا وضمن هذه الظروف لا بد من إحداث انفراج سريع في مفاوضات جولة الدوحة حتى يمكن التأسيس لنظام تجاري عالمي عادل ينصف ملايين من سكان الدول النامية ويساعدهم في تعاملهم مع النظام الاقتصادي العالمي. على صعيد آخر وضمن التغيرات المتوقعة في مجال النظام الاقتصادي العالمي كنتيجة لأزمة المال، التحول في موازين القوى الاقتصادية. فمصادر النمو الاقتصادي العالمي لم تعد تنحصر في الدول المتقدمة، بل نشهد اعتماداً أكثر فأكثر على اقتصادات الدول النامية لتكون قاطرة النمو الاقتصادي العالمي. ويوجد في الوقت ذاته تراجع في عملية الاستمرار بنموذج النمو السائد والقائم على الاستهلاك المبني على المديونية، بخاصة في الاقتصاد الأميركي والممول من قبل الدول النامية. وقد يكون هناك تراجع مماثل لنماذج النمو في الدول النامية والقائمة على التصدير لصالح مزيد من الاعتماد على الطلب المحلي والاستهلاك الداخلي. هذا الموضوع يقودنا لمعالجة الاختلالات المالية العالمية التي يرجح بأن تكون لعبت دوراً في الأزمة الحالية وأعتقد بأن موضوع الاختلالات المالية سيخضع لمراجعات على أثر تداعيات الأزمة، لكن ليس بأن تعالج الاختلالات المالية الدول ذات الفائض والوفورات بأن تزيد من إنفاقاتها حتى يبلغ الاقتصاد العالمي حالة التوازن المالي، كأن سياسات التحفظ والحذر التي اتبعتها دول الفائض هما السبب في هذه الاختلالات المالية. وماذا عن الأسباب الرئيسة لهذه المشكلة المتمثلة في التوسع في الاستهلاك من قبل دول غربية تجاوزت إمكاناتها إلى حد أوصلتها إلى مديونية عالية؟ أليس الأجدى معالجة هذا الجانب أيضاً لتحقيق توازنات مالية عالمية مرغوبة؟ يرتبط في الواقع موضوع الاختلالات المالية بمسألة الموقف من صناديق الثروات السيادية. فغالبية الدول النامية التي تكونت لديها وفورات وفوائض مال، إن لم يكن جميعها، أنشأت صناديق استثمار سيادية تستثمر في الخارج كجزء من سياسة تنويع مصادر الدخل. إلا أن الدول الغربية، بخاصةٍ التي تعاني من اختلالات مالية، أبدت تحفظاً على استثمارات هذه الصناديق وحاولت أن تضع عليها قيوداً وعراقيل ليست كلها مبررة اقتصادياً، في وقت سمحت هذه الدول بأنشطة استثمارية ذات أخطار عالية كما تبين من تداعيات الأزمة، بخاصة ما يتعلق بأنشطة صناديق التحوط التي لم تكن أصلاً تخضع للرقابة. طبعاً شهدنا إثر هذه الأزمة تبدلاً في المواقف واستعداداً لمراجعة الممارسات في هذا الشأن. لذا نتوقع في ضوء الأزمة، أن تسود قريباً أوضاع مغايرة سواء في ما يتعلق بالموقف تجاه صناديق الثروات السيادية أو تجاه أنشطة صناديق التحوط. ولا نستبعد على الصعيد العالمي أن نرى أيضاً أدواراً جديدة لمؤسسات المال العالمية. فكما خلال أزمات مال سابقة، في أميركا اللاتينية أو في آسيا، انحصر دور مؤسسات المال العالمية في إلزام الدول النامية مصدر الأزمة، باتباع سياسات نقدية ومالية اعتبرت من وجهة نظر هذه المؤسسات ضرورية، إضافة إلى أنها مهمة لحماية الاقتصاد العالمي. الآن وقد نشأت الأزمة في الدول المتقدمة وبدأت أضرارها تطاول الدول النامية، أفليس من واجب المؤسسات الدولية حرصاً على سلامة اقتصاد العالم، أن يكون لها دور في ضبط الأوضاع؟ بحسب علمنا لم يكن لمؤسسات المال العالمية دورٌ مهم في الإجراءات التي اتخذت لمعالجة الأزمة في الدول المتقدمة، واقتصر الدور حتى الآن على ضبط الأوضاع في الدول النامية المتأثرة وليست المسببة للأزمة مثل دول أوروبا الشرقية ودول البلطيق وأيسلندا وباكستان وغيرها. فهل من شأن تداعيات الأزمة إتاحة المجال لمؤسسات المال العالمية معالجة الأزمات ذات الأبعاد الدولية، حتى في الدول المتقدمة؟ ولا يجب أن يكون مستبعداً لأن الأزمات التي تنشأ في الدول المتقدمة تطاول بسبب العولمة وترابط الاقتصادات العالمية، الدول النامية أيضاً، وتمثل مؤسسات المال المعنية مصالح الدول النامية والمتقدمة معاً. وإذا أخذنا في الاعتبار أيضاً ازدياد تمثيل الدول النامية وأهميتها في هذه المؤسسات، يصبح من الطبيعي أن تتحرك المؤسسات ليس فقط لمساعدة الدول النامية في مواجهة الأزمات ولكن لضبط الأوضاع المسببة للأزمات والتي قد تنشأ في الدول المتقدمة. ثانياً: التغييرات والمراجعات المتوقعة في النظام المالي والمصرفي ولا بد أيضاً، على صعيد القطاع المالي، من أن تخضع ممارساته في ضوء الأزمة لمراجعات مهمة، سواء تعلق الأمر بالوضع الرقابي أو السياسات الرقابية أو الشكل الرقابي، فبحسب ما يبدو فإن كل هذه الأمور ستخضع لمراجعات مهمة يُتوقع أن تؤدي إلى وضع مختلف قد يكون جديداً للممارسات المتبعة في القطاع المالي. أما على الصعيد المصرفي فيبدو أن التغييرات المتوقعة قد تكون الأهم، بخاصة في ما يتعلق بمعدلات كفاية رأس المال، مستويات المديونية ومعدلات السيولة إضافة إلى إمكان مراجعة موضوع الفصل في التخصصات المصرفية ومحاولة التحكم وتقنين نشاط التوريق والتمويل من خارج الموازنة إضافة إلى تأكيد ضرورة التناسب في الآجال بين الأصول والمطلوبات. ويبدو على صعيد القطاع المالي والمصرفي أن المراجعات والتساؤلات حول الممارسات السائدة ستكون أكثر حدة أو أكثر سرعة في التوصل إلى نتائج مرضية لكون الأزمة في الأصل نتيجة الممارسات المالية والمصرفية السائدة. ويتوقع أن يشهد الجانب الرقابي لأنشطة المال والمصارف، مراجعات مهمة في ضوء تداعيات أزمة المال. كما توجد تساؤلات من ناحية الرقابة المالية والمصرفية، نتطرق إلى بعضها على سبيل المثال لا للحصر. (1) هل ستوضع رقابة وتحكم حول تحرك الأموال المضاربية أو الأموال الساخنة؟ تساؤلٌ أصبح مطروحاً في الدول النامية والمتقدمة على السواء. فاجتماع مجموعة العشرين الأخير في اسكتلندا لمّح إلى هذا التوجه وبدأ في بلدانٍ نامية مثل البرازيل التطبيق الفعلي لهذا التوجه بفرض 2 في المئة ضريبة على الأموال الأجنبية المستثمرة في أوراق المال. دولٌ عربية أيضاً تعرضت لحركات سريعة ومزعجة للأموال الساخنة ما يشير إلى أن الظاهرة أصبحت تشكل هموماً مشتركة لدول كثيرة نتيجة تداعيات أزمة المال. وحتى ضمن هذا التوجه لا بد من تمييز بين الاستثمارات المباشرة المرحب بها وبين الاستثمارات غير المباشرة التي عادة ما تكون غير مستقرة وتتصف في حالات كثيرة بالمضاربة. (2) ستوجب أزمة المال إعادة النظر في الفصل بين السياسة النقدية والرقابة المصرفية، فقبل نشوب الأزمة كان مثل هذا المنهج يمثل أسلوباً متقدماً في إدارة القطاع المالي والمصرفي إلى درجة أن دولاً كثيرة كانت تدرس الاقتداء به. أعتقد أن هذا الأسلوب لم يعد مغرياً أو منصوحاً به بخاصةٍ بعد تعثر مصرف «نورثرن روك» في بريطانيا، ولا أستبعد أن تعيد بريطانيا النظر فيه. (3) أتصور أن إعادة النظر قد تكون واردة أيضاً في ضوء الأزمة في ما يخص موقف المصارف المركزية من أسعار الأصول وبخاصة العقار والأسهم، لأن مسؤولياتها قبل الأزمة كانت تهتم بتحقيق استقرار الأسعار Price Stability من خلال مكافحة التضخم، ولا تدخل تقلبات أسعار العقار والأسهم من ضمن هذه المسؤوليات. إلا أنه في ضوء الأزمة وما تسببت فقاعات الأسهم والعقار من أعباء على المصارف المركزية، قد يكون الأمر الآن مختلفاً فيُعاد النظر في موقف المصارف المركزية من أسعار الأصول. (4) قد تكون هناك أيضاً إعادة نظر في موضوع الفصل بين التخصصات المصرفية، فبعد أن مر العالم في فترة من الفصل بين الصيرفة الاستثمارية والتجارية، وأعيد النظر فيها فدمجت الأنشطة المصرفية المختلفة في ما يعرف بالصيرفة الشاملة. لكن أزمة المال أفرزت من ينادي بالتفكير جدياً في الفصل من جديد على أساس تخصيص مصارف بالأنشطة التقليدية التي تنحصر في قبول الودائع وتمويل الاقتصاد، يمكن للدولة دعمها وقت الحاجة، ومصارف مستعدة للتعامل في منتجات مصرفية أكثر مجازفةً فتتحمل بذاتها مسؤولية نتائج أعمالها في شكل يجعل الدولة في حل من مساعدتها أو إنقاذها لدى تعثرها. (5) في ما يخص معدل كفاية رأس مال المصارف، وجدنا نتيجةً للأزمة، أن المعدلات المتعارف عليها لم تكن كافية لمواجهة الصعوبات لدى المصارف، لكن لم يتضح بعد نوع المعالجات التي يمكن أن يستقر عليها الرأي. فمن ناحية ضروري لدى تحديد معدل كفاية رأس المال المناسب، أن تُعالج ظاهرة ال procyclicality في شكل يمكن من زيادة معدلات كفاية رأس المال في حالة الرواج الاقتصادي وخفضه في حالة تباطؤ الاقتصادي. لكن لا بد في مثل هذه المعالجات من أن تكون انتقائية، أي لا يطبق معدل كفاية رأس المال ذاته على جميع المصارف بغض النظر عن درجة أخطار الأنشطة التي تنجزها. (6) بالطبع توجد جوانب مالية مصرفية نتوقع أن تأخذ مزيداً من الاهتمام في ضوء تداعيات الأزمة. منها أن التحكم في السيولة الزائدة لا ينبغي أن يعتمد فقط على التحكم في عرض النقود بل يحتاج إلى ضبط حجم الائتمان. كذلك الأمر في ما يتعلق باعتماد المصارف على أموال قصيرة الأجل لتمويل أنشطة ذات آجال متوسطة وطويلة الأجل، فعلى رغم أن مثل هذا الأمر يتعارض مع أبسط التقاليد والأعراف المصرفية المعهودة، وجدنا خلال الأزمة مصارف كثيرة، مثل «نورثرن روك» البريطاني ومصارف في المنطقة، تجاهلت هذه الأعراف المصرفية وتجاوزتها، ما عرضها إلى إشكالات ومشاكل فادحة الثمن. فهل توضع إجراءات جديدة إضافية لتجنب تكرار مثل هذه الممارسات؟ هذه من الأمور التي نعتقد أنها، وإن تكن من المسلمات، تحتاج إلى مزيد من الضبط والانضباط في فترة ما بعد الأزمة. وسواء تعلق الأمر بالتغيرات المنتظرة على صعيد النظام الاقتصادي العالمي أو على صعيد القطاع المالي والمصرفي، فإن قائمة التغيرات المتوقعة قد تطول أو تقصر وقد تتجاوز ما ذُكر وقد تقتصر على بعضها، وقد تكون الفترة الزمنية لحدوث مثل هذه التغيرات، سريعة أو بطيئة لكن بالتأكيد ستحدث أزمة المال حتماً نوعاً من التغيرات للممارسات التي كانت سائدة، سواء على صعيد العلاقات الاقتصادية الدولية أو على صعيد ممارسات المال والمصارف العالمية عاجلاً أم آجلاً. * المدير العام رئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي. - تعبر هذه الورقة عن وجهة نظر صاحبها ولا تعكس بالضرورة موقف المؤسسة التي ينتمي إليها.