رفض البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير زيارة سورية وتحفظه على مستوى مشاركة المعارضة في الحكومة الجديدة، إضافة الى اعتراضه على سياسة «حزب الله» وسلاحه، مواقف تبدو خارج سياق التوافق الذي أدَّى إلى إعلان ولادة الحكومة. وإذا كان البعض يرى في ما يدلي به صفير بين الحين والآخر تعبيراً منسجماً مع فريق مسيحي محدد هو «القوات اللبنانية»، أي الحزب الأكثر وضوحاً في تمسكه بمطالب مسيحيي قوى 14 آذار (مارس)، فإن المؤتلفين في تجمع الثامن من آذار (مارس) يكرهون هذا الحزب لأسباب لا تتعلق كلها بتاريخ وسجل «القوات» أثناء الحرب الأهلية، بل تتصل أكثر بتصوراتهم لما يفترض أن تكون عليه الزعامة المسيحية في الحاضر والمستقبل، وهي زعامة يُنتظر منها توفير الغطاء لأدوار خارجية تُؤدى على الأراضي اللبنانية، أو على الأقل أن تكون أكثر ليونة حيالها. وليس من الفطنة في شيء محاسبة «القوات» على سجلها، بعد عشرين عاماً من انتهاء الحرب الأهلية ومحو سجلات حلفاء لا تقل قتامة. بيد أن ذلك اقل ما يستدعي العجب في بلد يحكمه، من بابه إلى محرابه، الاعتباط والاستنساب. مهما يكن من أمر، ثمة ملاحظتان يتعين أن تقالا في شأن مواقف البطريرك. الأولى هي أن صفير لم يأتِ بجديد على ما كانت تقوله قيادات الصف الأول في 14 آذار قبل اكتشافها وبثمن باهظ، حدود الرغبات الاستقلالية واستحالة إنجازها ضمن الشروط الداخلية التي نشأت فيها (قبل الإعاقة الخارجية وبعدها)، لتنضوي بعد التجارب المريرة المعروفة إلى المحذرين من خطورة المؤامرة الإسرائيلية –الأميركية على الكيان ولتسلم للمقاومة بحقها بالاحتفاظ بسلاحها إلى ما شاءت. الملاحظة الثانية، تقول إن المسائل والمخاوف التي يثيرها البطريرك لم تعالج. فحجم الأخطار التي تتهدد الجمهورية اللبنانية جراء تفاقم ارتباط سياساتها الداخلية بالصراع الإقليمي والدولي، لم يتقلص. أضف إلى ذلك أن مَن يطمئن البطريرك إلى جدية طرح قضية سلاح «حزب الله» على مائدة الحوار الوطني، هو أول من يعرف أن الحوار المذكور لن يرتقي إلى مستوى علاج قضية السلاح الذي لا يترك تعاظمه مجالا للشك في جسامة الأدوار الخارجية المناطة به، بما يتخطى بمراحل مهمة الدفاع عن الحدود الجنوبية للبنان. لكن البطريرك ينطلق على ما يبدو من تصور «محايد» لوظائف الدولة وسلطاتها وأدوار المؤسسات فيها. وهو حياد يكاد يكون أكاديميًا في تعريفه لما يجب أن تكون عليه العلاقات بين الدولة ومواطنيها وأحزابها السياسية، ولما لا يجدر أن تتولاه الجماعات الأهلية من أعمال، من نوع إنشاء الجيوش والأجهزة الأمنية وإدارة علاقات سياسية وغيرها مع الدول الأجنبية. ومع بعض المبالغة، يمكن القول إن آراء البطريرك صفير تصدر عن مدرسة الحداثة الأوروبية التي وضعت الحدود بين الدولة والهيئات الأهلية والمدنية، فيما تصدر آراء معارضيه ومنتقديه عن فكر «ما بعد الحداثة» الذي لا يعترف بأي نوع من الحدود والفوارق ويقبل بتداخل يمتزج فيه شذر الدولة بمذر الطوائف المسلحة، في سبيل إنتاج السلم الأهلي. بيد أن سلماً أهلياً يقوم على توقع حسن النيات المحلية فيما يقف لبنان وسط مرجل يغلي بالعنف وباحتماله، هو أشبه بما فعل عمرو في قصيدة أبي فراس الحمداني الشهيرة.