إذا كان القادم من خارج تونس يجيء إليها محمّلاً بأطنان من الانطباعات السلبية في الشق السياسي والأمني، فإن المتابعين للخطاب السياسي كما يصفه وزير الأوقاف التونسي، سيأتون بأعباء أثقل، فما من خطيئة أو كبيرة دينية إلا تونس مثلها الأعلى في خطاب أولئك، الذي بات غير قابل للنقاش فضلاً عن التشكيك لدى الكثيرين، لشدة ما تشربته النفوس. لكن المشاهد عن قرب يكتشف أن التونسيين قبل غيرهم مختلفون في تقويم واقع بلادهم الديني، الماضي والحاضر، وموقفهم من ذلك الواقع بطبيعة الحال. فهل كانت تونس عدوة للدين ذات يوم؟ وهل ثمة صحوة دينية في تونس؟ وكيف تتفجر صحوة دينية في بلد علماني لا ديني كما يوصف؟ ثم السؤال الأخطر: ما موقف المجتمع والدولة من ذلك التحول إن كان حقاً؟ إلى غير ذلك من الأسئلة الشائكة حول المرأة والحجاب، والمنابر الدينية. المحافظون القدامى يرفضون بحزم طرح النقاش، حول ماضي التونس الديني، ويعتبرون ذلك نوعاً من إعطاء الدروس في مجال يرون أنفسهم أصحاب الريادة فيه. أبرز أولئك وزير الشؤون الدينية الدكتور بو بكر الأخزوري، رئيس جامعة الزيتونة سابقاً، إذ رفض القول بما يتردد عن اضطهاد الإسلاميين أو ما يعبر عنه ب«غربة الإسلام» في تونس ذات يوم. وبالمرور إلى عهد رئيس تونس الراحل الحبيب بورقيبة، ضمه الوزير لسلسلة المصلحين والمجددين من أهل الفكر والفقه التونسيين! أشباه أبي زيد القيرواني، وسحنون، وابن خلدون، والطاهر بن عاشور، والحداد، الذي فجر الجدل الفقهي في تونس في مرحلة باكرة من القرن الماضي، وأعلن تحرير المرأة فقهياً، قبل أن تحرر سياسياً في كتابه «امرأتنا في الشريعة والمجتمع». ومن المفارقات الشبيهة بما يحدث في أرض المشارقة، أن الفقيه الطاهر الحداد، الذي يعتبر الآن المرجعية الكبرى لما آلت إليه النظم والتشريعات الفقهية الخاصة بالمرأة في تونس، واجه حين أدلى بآرائه الجديدة آنذاك هجمة شرسة، ألفت على إثرها عشرات الكتب في الرد عليه، من جانب علماء تونسيين، بين أظرفها مؤلف سماه كاتبه «الحِداد على امرأة الحدّاد». حتى زعم كاتب سيرة مختصرة عنه البشير صالح الجلالي، أن من بين العوامل التي عجلت برحيل الفقيه الحداد، صدمته بظلم «ذوي القربى» من مواطنيه الذين لم يقدروه حق قدره، على رغم بسالته في حقول السياسة، والثورة، والفقه، والأدب، والعمل الاجتماعي، إلا بعد رحيله عن دنياهم بعقود. ورثة حضارات لا يقبلون المزايدة وزير الشؤون الدينية دافع في انتصاره لريادة وطنه دينياً وحضارياً بأن «تونس على مدى ثلاثة آلاف سنة، كانت مهداً لحضارات عريقة، توالت عليها، فجعلت منها أرض اللقاء والحوار والتسامح، فهي وريثة قرطاج، السباقة إلى فتح عهد الحرية والديموقراطية، وظلت دوماً منفتحة على محيطها، مؤثرة فيه متأثرة به (...) وانطلاقاً من أرضها أشع الفتح الإسلامي في مختلف الاتجاهات، إذ كانت جسر عبور نحو أوروبا للحضارة العربية الإسلامية، ولقيم الاعتدال والوسطية، واضطلعت بدور بارز في نشر الدين الإسلامي الحنيف، عقيدة وحضارة، بأفريقيا والأندلس، ومثلت القيروان والمهدية وتونس بجامع الزيتونة المعمور منارات مضيئة للعلم والمعرفة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط وفي العالم الإسلامي». وفي الحقبة الاستعمارية اعتبر الأخزوري أن مواقف شيوخ الزيتونة المستنيرين والنخب الفكرية الصادقة، هي التي مكنت من «إحباط محاولات السلط الاستعمارية المتكررة ونواياه الرامية إلى الاستلاب الثقافي والحضاري، وإلى تقويض القيم المتأصلة في نفوس التونسيين والتونسيات، وكان الذود عن الدين الإسلامي الحنيف، خير حافز على تعبئة الفئات الشعبية لمقاومة الاحتلال وإفشال مخططاته الرامية إلى النيل من ثوابت الشعب ومسخ شخصيته». وعلى أساس تلك الرؤية يقول الوزير: «ظل الإسلام في هذه الربوع مقوماً أساسياً للشخصية الوطنية، ومن أقوى ما يوحد التونسيين، وهو إلى ذلك دين يرفض التحجر والانغلاق ويحض على الاعتدال والتضامن ومسايرة العصر، والدولة هي وحدها المسؤولة عن حمايته، ورعاية شؤونه، والساهرة على بيوت الله، وعلى ضمان حرية المعتقد، وممارسة الشعائر». وأثبت الوزير الأخزوري الذي يتمتع بفصاحة نادرة، عبر منشور محكم التوثيق أصدرته وزارته بمناسبة مرور 50 عاماً على الاستقلال، عناية الدولة التونسية بالشأن الديني منذ لحظة تأسيسها الأولى، فأمام أول حكومة وطنية تأسست بعد الاستقلال 16 نيسان (أبريل) 1956 كان أول بندٍ شدد بورقيبة على تأكيده حرفياً هو أن «تونس دولة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها». فكانت أول عبارة تضمنها الفصل الأول من الدستور. وأبرز المنشور عشرات الوثائق الموقعة من جانب الحكومة التونسية لتنظيم الشأن الديني واستحداث بعض وظائفه وتطويرها. وأكثر ما يمكن أن يعزز صدقية الرصد الذي حصلت «الحياة» على نسخة منه، أنه لم يغفل حتى تلك القرارات التي تصب في إطار عسكرة الشأن الديني، إذ تضمن المنشور الأمر الصادر في 11 نيسان (أبريل) 1970 بإلحاق الشؤون الدينية بوزارة الداخلية، لتصبح الوزارة هي المشرفة على الشأن الديني في كل تراب الجمهورية، في خطوة قد لا تكون حدثت في أي بلد في العالم! وليس الوزير الأخزوري وحده الذي ينظر إلى كل تاريخ تونس الديني بالرضا والإعجاب، فهذا وزير الثقافة التونسي عبدالرؤوف الباسطي، يعتبر البلاد قائمة في أساسها على الهوية العربية الإسلامية، ونشاطها الثقافي وُجد لترسيخ ذلك المبدأ في ذاكرة الأجيال الحاضرة. ويرى إمام جامع عقبة بن نافع في القيروان، وهو الجامع الأقدم في كل افريقيا، الشيخ محسن التميمي، أن بلاده وإن شهدت مزيداً من الاعتناء بالشأن الديني في عهدها الحالي، إلا أنها لم تكن ذات يوم عدوة للإسلام كما يروج لذلك بعض المشارقة. التفرنج والبطاقات المغناطيسية وهناك إشاعتان حول إغلاق المساجد، وإعطاء عدد من روادها بطاقات مغناطيسية، حتى لا يرتادها غيرهم. وأخرى عن التبشير باللباس الغربي بين التونسيات، والتحريض على الحجاب الإسلامي، سألت «الحياة» صراحة عنها مثقفين تونسيين، فأجابوا بأن شيء من ذلك لم يحدث في عهد بورقيبة فضلاً عن عهد الرئيس الحالي! وبمحاولة البحث عن أصل الإشاعتين اللتين كانتا الشاهد المتكرر في أحاديث المناهضين لتونس، روى مدير إذاعة الزيتونة للقرآن الكريم الدكتور كمال عمران ل «الحياة» أنه سمع الإشاعة الأولى من الداعية المصري الدكتور زغلول النجار، «فقدر الله أن جمعنا الحج قبل سنوات، فقلت له إنك قلت كذا وكذا، فما هو دليلك عليه؟ فقال بعض الإخوة التونسيين نقلوه لي. فقلت له : أنا تونسي، وأقسم لك بالله أن هذا كذب وبهتان، فتراجع عن قولك وبين خطأه. فقال: إن لم يكن صدقاً فعلى الأقل يسهم في النكاية بالنظام التونسي»! استطلاع لها عن تونس «نشرت صورة للوحات الدعاية المنصوبة في الشوارع، فلوحة تمثل أسرة ترتدي الزي المحتشم وعليها إشارة (X)، وأخرى تمثل أسرة متبرجة متفرنجة (...) والغريب أن القوانين التونسية تعاقب من يتزوج ثانية بالحلال، وتبرئ من يخادن بالحرام»! وبطبيعة الحال لم يرفق المؤلف عدداً للمجلة ولا تاريخاً لصدورها. ونفى حدوثها كل من سألته «الحياة» من التونسيين! لكن نفي الإشاعتين لا يعني أن كل ما هو ديني في تونس بورقيبة على ما يرام، فهناك الكثير من السياسات والقوانين، والممارسات، التي تستعصي على النكران. إلا أن ذلك العهد ينظر إليه التونسيون بكثير من الاحترام لخصوصيته في الاستقلال وبناء الدولة. إلا أن الواقعيين أقصى ما يتحدثون عنهم ساعة الدفاع عن عهد الراحل، هو أن المبالغة كانت طاغية في هجاء المرحلة، وهي في أسوأ حالاتها لم تصل إلى ما روج له خصومها. أوزار بورقيبة تلاحق ابن علي إذا تمّ التسليم جدلاً بأن عهد بورقيبة المليء بعقد الاستقلال وبناء الدولة، وصراع القوى الكبرى، وهواه الشخصي كزعيم مهووس بالألقاب، كان حرجاً سياسياً ودينياً، فإن الذي يجعل الإحباط يبلغ أعلى ذروته لدى التونسيين، شعورهم بأن إخوتهم العرب توقفوا عند ذلك التاريخ، وصاروا يحاكمون بلادهم على نهج، بات من الماضي. فعلى رغم كون الرئيس الحالي زين العابدين بن علي رئيس وزرائه سلفه بورقيبة، إلا أنه أعلن منذ بداية تسلمه للحكم بعد الحركة التصحيحية 87م، مضيه في بناء دولة المؤسسات، عبر نهج مغاير تماماً. بل إن أكثر ما يردد التونسيون علناً حفظه لرئيسهم هو إنقاذه لبلادهم على حد قولهم، من الوقوع في الهاوية التي وقعت فيها الجزائر، بسيطرته على الحكم، في لحظة أدى فيها ضعف بورقيبة إلى طمع الكل في طبق الرئاسة، بمن في ذلك الإسلاميون، الذين كانوا يومئذ في أوج قوتهم، على رغم إيداع الحبيب للآلاف منهم السجون. قبل أن يعلن ابن علي مصالحة كبرى مع الجميع، وأطلق سراح آلاف من الإسلاميين وغيرهم، كانوا قابعين في الزنازين. ومع أن التونسيين يبالغون كثيراً في الحديث عن الفوارق بين العهد القديم والجديد، ويستعرض بعضهم مضامين خطاب التصحيح في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 87م على وجه التمجيد، إلا أن الأرقام البعيدة عن العواطف، يمكن أن تتحدث على نحو أدق، عن الشأن الديني. أهم المعالم التي ترجمت اختلاف الرئيس الجديد عن سلفه، كانت العاطفة الإسلامية النابضة في خطابه الأول، إذ تضمن عزمه إحياء التضامن الإسلامي، وختمه بآية هي قول الله تعالى «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون». في بادرة زعم التونسيون أنهم لم يشهدوها من قبل. ثم توالت المضامين الإسلامية بعد ذلك في خطبه بصراحة شديدة، كللها بخطوات أجهضت الفتنة، وتسارع التطوير في الحقل الديني بوتيرة استمرت حتى اليوم. كما قال داعية تونس الأشهر محمد مشفر. فيما عدّد وزير الشؤون الدينية ل «الحياة» جوانب عدة، قال إنها مثّلت أساس النهضة الدينية التي تشهدها بلاده حالياً، وهي: أولاً: المصالحة الوطنية أعادت الاعتبار إلى الدين الحنيف، الذي كان مهمشاً في أحسن الأحوال على رأي المحايدين فأعيد لجامعة الزيتونة ضياؤها، بعد أن قضى عليها بورقيبة. ثم أضيف إلى الجامعة «معهد عال لأصول الدين، وآخر أعلى للحضارة الإسلامية، ثم مركز للدراسات الإسلامية في القيروان (جنوب العاصمة 150 كم)، كذلك نشأت مجلات علمية تابعة للجامعة ومعاهدها، أثرت المشهد العلمي والفقهي في البلاد ببحوث كتابها من علماء الزيتونة». ثانياً: العناية بالمعالم الدينية، «فتطور عدد الجوامع والمساجد، من ألفين و390 إلى أكثر من ضعف ذلك العدد بنهاية 2005، إذ بلغ مجموع دور العبادة في كامل تراب الجمهورية (خمسة آلاف) مسجد وجامع! بما يعني أن عدد المساجد التي بنيت من 88 إلى 2005 توازي في عددها التي بنيت في تونس منذ الفتح الإسلامي قبل 1400عام!». غير أن هذا الكم ليس وحده الذي أثر فيه عهد الرئيس الذي يهجوه الإسلاميون، ولكن أيضاً أصدر بخطابه المؤرخ في 3 أيار (مايو) 1988، مرسوماً يقضي بتكفل الدولة بكل مصروفات بيوت الله، بما يشمل الماء والكهرباء والتأثيث والصيانة. بينما كانت في الماضي تعتمد على جهود المحسنين، الذين لا طاقة لهم بكل متطلبات عمارة المساجد. وفي هذا الصدد، شملت العناية حتى المعالم الدينية الأثرية، التي كانت رهن ورثتها، وتعيش حالاً مزرية من الإهمال، وشاهدت بأم عيني صورها قبل التحسين وبعدها في القيروان، فكانت نقلة لا تصدق. كما أن الرئيس زين العابدين لم يقف عند دعمه سياسياً بل اهتم بدور العبادة، ولكنه اجتهد في إنشاء «جامع العابدين» في قرطاج، وافتتحه بحضور الأمير نايف بن عبدالعزيز وفقهاء تونس ووجهائها، فكان افتخاره بإنشاء جامع باسمه على طراز فريد، خطوة تحظى برمزية عالية لدى التونسيين. ثالثاً: إنشاء وزارة للشؤون الدينية، بعد أن كانت إدارة في وزارة الداخلية! رابعاً: العناية بالقرآن، إذ تقام سنوياً مسابقة دولية لحفظ القرآن وتلاوته وتفسيره عدا مشاركات التونسيين في المسابقات الدولية. تلاوة القرآن الكريم على 24 ساعة في جامعي «الزيتونة المعمور»، وعقبة بن نافع في القيروان. كما أمر الرئيس بطبع «مصحف الجمهورية» برواية قالون بأعداد كبيرة توزعت على مساجد ومرافق العبادة. وثمة كم هائل جداً من النشاط الديني الموثق، تحدث عنه وزير الشؤون الدينية ل«الحياة»، ووثقته وزارته في مطبوع راقي الطباعة والتنظيم. لكن أجمل ما في ذلك النشاط أنه منظم، وله كيان مؤسسي في سائر الاتجاهات الفكرية والثقافية والتربوية، بل إن أغرب الأشياء التي كان آخر ما كان منتظراً من بلد مثل تونس هو إقامة حلق لتحفيظ القرآن الكريم ما زال يطلق عليها اسمها التراثي «الكتاتيب»، تجاوز عددها ألف محضن للقرآن، يدرّس الآلاف من أبناء التونسيين فيها، وتم تحديثها بالحاسب الآلي، وإسناد الإشراف عليها إلى «مؤدبين» من خريجي جامعة الزيتونة. وأثناء ما كان الوزير الأخزوري يعدد منجزات وزارته الدينية، لاحظ ما تملكني من العجب، وأنا بين مصدق له ومكذب، لهول الانطباع السائد عن بلاده، فرد غاضباً: «لا تتعجب. الصورة التي تبحث عما يعززها في ذهنك، لا وجود لها في تونس، وأصحاب الصوت المريض (يعني جماعة النهضة)، الذين نشروا عنا تلك الصورة، وأنصارهم من «الساسوية» جرمهم في حق الإسلام وأوطانهم لا يغتفر». قميص الحجاب والمساجد! وبهذا فتح لي المجال لأسأله عن المفارقات الأخرى، مثل قضايا الحجاب وحظر تعدد الزوجات، وما يتردد عن صحوة إسلامية في تونس. ويضيف: « المرأة لدينا محترمة ومقدرة، ومن حقها أن تلبس الحجاب وتستر نفسها، وتغطي رأسها إذا شاءت، لكن ما تسمع عن منعه في تونس هو «الزي الطائفي»، ونعني به النساء المتلفحات بالسواد، وفي كل أجهزة الدولة توجد المحجبات. أما تعدد الزوجات، فإنه ليس فريضة فنأمر به، وإنما هو رخصة، رأى الفقهاء في بلادنا أنها لا تناسب واقعهم الاجتماعي، فتم حظره نظاماً. ونحن مستعدون لمناظرة من رأى في ذلك مخالفة للشريعة من أصحاب القلوب المريضة. أما ما تعتبره أنت صحوة إسلامية، فإنه تدين مجرد، نرحب به ونطرب، وحين يضيق المسجد بالمصلين، فإننا نعمل على توسعته». وعند سؤاله عما يتردد بشأن مراقبة المساجد أمنياً، عاد الوزير إلى غضبه وقال: «نحن لسنا نازيين، أو شيوعيين حتى نراقب المصلين، ولو علمنا أن رجل أمن دخل مسجداً إلا للصلاة، لأمرنا باعتقاله»! وفي مسألة الحجاب شاهدت أثناء التجوال في وسط تونسوجنوبها وشمالها الفتيات وكبيرات السن مغطيات رؤوسهن في الإدارات الحكومية وفي الشوارع العامة والأسواق (وفي الجامعات أيضاً كما سمعت، لأنني جئت فترة الإجازة) بأعداد لافتة، وكل من سألتهن «الحياة» عما يتردد عن اضطهادهن نفين ذلك تماماً. لكن المثقفين التونسيين كشفوا صراحة أن «هناك نوعاً من الحجاب ممنوع في تونس، وهو الحجاب الأسود، والنقاب، بحجة أنه دخيل على المجتمع التونسي، فهو إما أن يكون شيعياً أو سلفياً، وهما توجهان مستوردان اجتماعياً، أما الزي التونسي المحتشم فلم يتعرض للمضايقة أبداً». ولم ينكروا توجساً من بعض المحجبات والملتحين الجدد، خوفاً من أن يكون ذلك بداية تحول يتطور إلى ما هو أبعد من التطرف. وأما المساجد، فإن الدولة فرضت في عهدها الجديد على البلديات، اقتطاع مساحات لبنائها في كل مخطط، كأحد مرافق الدولة الأخرى. وبالتالي فإن الأرض من الدولة، فيما يتعاون سكان الأحياء عبر جمعياتهم المدنية في تشييد المسجد، ثم بعد ذلك تقوم الدولة برعايته. كما هي الحال في السعودية، وكثير من دول العالم الإسلامي. وفي إحدى الجولات على جنوب (العاصمة) وجدت ثلاث مساجد تحت الإنشاء، بجوارها إعلان يدعو الأهالي للمساهمة في بنائها بحثاً عن الأجر. من يصدق أن ذلك يحدث في تونس؟ «الزيتونة» تستحوذ على القلوب ب «الترغيب والطرب الأصيل» إذاعة «الزيتونة». هي مبنى صغير جداً في قرطاج، لا تتجاوز مساحته 200مترمربع، إلا أنه ملأ كل الجمهورية وليبيا والجزائر بالقرآن والترغيب. وإذا لزم الأمر ب «أم كلثوم»، عبر ابتهالاتها وأغانيها الدينية! ربما لا يصدق أن عصراً شهد وفاة الإذاعات، تُحدث فيه إذاعة ناشئة مثل «الزيتونة» «انقلاباً وضجيجاً، كله استحسان وترحيب»، هذا ما يجمع عليه كل التونسيون ويتعجبون منه. أما مدير الإذاعة المفكر التونسي كمال عمران فإنه قال عن السر فيما أحدثوه من ضجة في أقل من سنتين: «وفقنا الله، فتقبلنا الشعب التونسي، وقد يكون ذلك بسبب إخلاص منشئ الإذاعة محمد صخر الماطري (27)عاماً)». وكان صهر الرئيس التونسي الشاب الماطري، برر سعيه في إطلاق الإذاعة ب «رغبة وحيدة، هي أن يحب التونسيون ربهم ونبيهم». ولذلك رأى عمران ومساعده الداعية محمد مشفر أن يؤسسا خطاب الإذاعة على «الترغيب، وتجنب الوعظ والزجر والترهيب، ومحاولة كسب قلوب الشباب، وفتح باب الأمل لهم، وغض الطرف عن الصغائر والهفوات، والتركيز على الثوابت الكبرى». بذلك غدت «الزيتونة» الرقم الصعب في تونس اليوم، تفوق في تأثيره حتى على «جامع وجامعة الزيتونة». لكن ستكون أصعب إذا أطلقت قريباً «قناة الزيتونة الفضائية». وهذا ما يسميه التونسيون سياسة «سحب البساط» من تحت المتطرفين والحركيين.