تظاهرة مقابل تظاهرة، هذا ما حدث الخميس الماضي، حين قام مستوطنون يهود، من بينهم وزراء في حكومة إسرائيل، بالتظاهر شرقي القدس للضغط من أجل إقامة مستوطنة إسرائيلية في المكان ذاته، وردّ عليهم الفلسطينيون بالتظاهر أمام مستوطنة «معاليه ادوميم»، من أجل إنهاء الاحتلال والاستيطان. لكن هذه ليست حادثة فريدة من نوعها، إذ شهدت الأعوام الماضية تصاعداً في أعمال المقاومة الشعبية، تجلّت في مظاهر التضامن مع الأسرى، في «معركة الأمعاء الخاوية»، وفي مواجهة مشروع «برايفر»، وإقامة قرية «باب شمس»، ومخيمات «العودة»، والتصدي لاعتداءات المستوطنين، واتساع دعوات المقاطعة ونزع الشرعية عن إسرائيل، كما في مجمل الحراكات الشبابية الرامية الى استنهاض الوضع الفلسطيني. هكذا، باتت الضفة تشهد نوعاً من استعادة المناخات التي مهّدت للانتفاضة الشعبية الأولى (1987-1993)، عبر التظاهرات الأسبوعية في قريتي بعلين ونعلين (غرب رام الله)، ضد الجدار والنشاطات الاستيطانية، حيث شكّلت هاتان القريتان نموذجاً يحتذى، ومركز استقطاب للقرى الأخرى، وبات لبلعين مؤتمرها السنوي، الذي تحول اسمه، في دورته الثامنة، من «مؤتمر بلعين للمقاومة الشعبية»، ليصبح «مؤتمر فلسطين للمقاومة الشعبية»، وهو مؤتمر يشارك فيه، أيضاً، متضامنون اسرائيليون ودوليون. وقد شهدنا، العام الماضي، قيام مئات من الشباب الفلسطينيين، بمحاولة بناء قرية، أطلقوا عليها اسم «باب الشمس»، على أراضي ما يعرف بالمنطقة E1 شرق القدس، لصدّ المشروع الاستيطاني فيها. وقد تم تجديد هذه المحاولة، في آذار (مارس)، قرب اليعزرية، وفي أوائل هذا العام، مع قيام ناشطي المقاومة الشعبية ببناء قريتي «العودة»، قرب مدينة بيسان، في أراضي 1948، و «ملح الأرض»، على أنقاض قرية «دير حجلة»، في الأغوار، لإرباك الاحتلال، ومقاومة الاستيطان، وإجهاض مساعي اسرائيل للسيطرة على غور الأردن، وإظهار أن ثمة خيارات أخرى لمواجهة إسرائيل غير المفاوضات. وتستمد هذه الظاهرة أهميتها، أيضاً، من اعتمادها في مناطق 1948، في مبادرات تطبيق «حق العودة»، بقيام ناشطين فلسطينيين، والمتضامنين معهم، بنصب مخيمات في قرى أقرت وكفر برعم وصفورية واللجون ومعلول وميعار، التي هجّر أهلها عام 1948. ولعل التظاهرة الأكثر لفتاً للانتباه، على صعيد تبلور أشكال المقاومة الشعبية، تمثلت بقيام أهالي قرية قصرة شمال الضفة، الشهر الماضي، بالتصدي للمستوطنين، الذين حاولوا الاعتداء على أراضيهم، إذ قاموا باحتجاز 10 منهم، و «تأديبهم»، قبل تسليمهم الى الجيش الإسرائيلي، بوجود ممثل عن السلطة، في ما اعتبر دفاعاً مشروعاً عن النفس. المغزى الأساسي من كل ذلك أن المجتمع الفلسطيني يحاول إثبات ذاته في مواجهة الاحتلال، وأنه يحاول استعادة زمام المبادرة في الدفاع عن أرضه وحقوقه، بإمكاناته الخاصة، وبعيداً من ارتهانات السلطة وخياراتها السياسية. ثمة ثلاث قضايا رئيسة يمكن استنتاجها من كل ذلك: الأولى، أن المجتمع الفلسطيني، مثل أي مجتمع، لا يمكن أن يستكين لانتهاك حقوقه وحريته وكرامته، بغض النظر عن توجهات قيادته. ولنلاحظ هنا أن الأجهزة الأمنية، التي يفترض أنها معنيّة بالحفاظ على أمن الفلسطينيين، وأملاكهم وأراضيهم، لم تفعل شيئاً في هذا الخصوص، في الوقت الذي قام فيه الجيش الإسرائيلي بحماية المستوطنين والمتظاهرين الإسرائيليين، ناهيك عن قيامه بالاعتداء على المتظاهرين الفلسطينيين. والثانية، تتعلق بتغيير قواعد الصراع، أو تغيير الأشكال الكفاحية، لا سيما بالخروج من أسر الفكرة التي تحصر النضال بالعمل المسلح، وبجماعات المقاومة المسلحة، والتي تقلّل من شأن المقاومة الشعبية. ما يعني أن جدلاً كهذا بات يدخل في باب الاستهلاك أو المزايدة، على ضوء التجربة، وبعد افتقاد قدرة الفصائل على العمل المسلح، أو عزوفها عنه، بخاصة أن هذه القناعة باتت تشمل مختلف أطراف الطيف الفلسطيني بما فيها حركة «حماس». والثالثة، تبيّن التعقيدات التي تكتنف كفاح الفلسطينيين، الذين لا يواجهون جيش احتلال فقط، وإنما يواجهون معه، لا بعض أو نصف، وإنما كل مجتمع الاحتلال، ربما باستثناءات قليلة، وهي تجربة غير مسبوقة في التاريخ، لا في إرلندا، ولا في الجزائر. فهذا مجتمع قام على الاستيطان الإجلائي، والعنصري، على أساس الدين، وبادعاءات الحق «الرباني»، بما يعتبر «أرض الميعاد» خاصّتهم، خصوصاً أننا نتحدث اليوم عن وضع بات فيه حوالى 60 في المئة من اليهود الإسرائيليين من مواليد فلسطين/إسرائيل، أي ليس لهم وطن «أمّ» آخر. فضلاً عمّا تقدم، فإن أحداث الخميس الماضي تفتح على مؤشّرات خطيرة في شأن عملية التسوية الجارية، بغض النظر عن رأينا فيها أو تقويمنا لها، إذ إن تظاهرة المستوطنين، كانت تطالب باستئناف المشروع الاستيطاني في منطقة «E1»، والاستيلاء على 12 ألف دونم، تمتد من أراضي القدسالشرقية حتى البحر الميت، وتفريغ المنطقة من أي وجود فلسطيني، لإقامة مجمعات استيطانية فيها، وفصل جنوب الضفة عن وسطها وشمالها، من خلال ربط هذه المنطقة بمستوطنة «معاليه أدوميم»، في القدس الغربية، ما يؤثر حتى في الوحدة الإقليمية لمنطقة القدسالشرقية. وفي ذلك، فإن الإسرائيليين يتصرفون على أساس أن الضفة لهم، وأن المفاوضات لا تعني شيئاً، وأن الفلسطينيين غير موجودين، أو ليس لهم حقوق، وهذا ما عبر عنه وزير البناء والإسكان أوري ارئيل، من «البيت اليهودي»، بقوله: «أرض إسرائيل تابعة لشعب إسرائيل». الجدير ذكره أن ثمة في اليمين الإسرائيلي أصواتاً باتت تدعو إلى نبذ حل الدولتين، وعدم التخلي عن أراض في الضفة، ولو بثمن ضم الفلسطينيين إلى إسرائيل، للحفاظ على مبدأ «تكامل أرض إسرائيل»، لأسباب دينية وأيديولوجية وأمنية ونفعية. وهذه الأصوات تقلل من شأن ما يسمى «الخطر الديموغرافي، ومن تداعيات منح الفلسطينيين المواطنة الإسرائيلية، باعتبار ذلك تحدياً على إسرائيل الديموقراطية أن تخوضه. وهذا ما طرحه، مثلاً، القياديان في «ليكود» روبي ريفلين، وهو رئيس سابق للكنيست، وموشي أرينز، وزير الدفاع السابق، الذي يقول صراحة: «أصبحت إسرائيل دولة ثنائية القومية يحيا فيها مواطنون يهود وعرب... التحدي الماثل أمامنا هو إدماج المواطنين العرب في المجتمع الاسرائيلي. إن اضافة أراضٍ من أرض إسرائيل إلى دولة إسرائيل ليست تحدياً لا تستطيع الديموقراطية الإسرائيلية مجابهته» («هآرتس»، 13/8/2013). وهذا ما طرحه، قبل أيام، عضو الكنيست زبولون كالفا، من حزب «البيت اليهودي» المتطرف، الذي يحاول استصدار قرار من الكنيست يعترف فيه بدولة واحدة بين نهر الأردن والبحر، هي دولة إسرائيل، ومنح المواطنة للفلسطينيين في الضفة ومنحهم الحقّ في التصويت في الكنيست» («الحياة الجديدة»، رام الله، 12/2/2014). طبعاً ينبغي التمييز هنا بين دعاة إسرائيل الواحدة، ودعاة حل الدولة الواحدة، الذي يدعو اليه يهود إسرائيليون، ويشهرونه ضد المؤسسة الحاكمة، وأيديولوجيتها الاستعمارية والعنصرية، كإيلان بابه وابراهام بورغ ويوري افنيري وجدعون ليفي وعميره هس وأوري ديفيز وغيرهم. إذ إن امثال ريفلين وأرينز وكالفا، من اليمين القومي المتطرف، ينطلقون في أطروحتهم من نفي وجود جماعة قومية أخرى، إذ إن الفلسطينيين عندهم مجرد سكان، ليست لهم حقوق جماعية سياسية، فضلاً عن انهم ينطلقون في ذلك من منطلقات صهيونية وعنصرية وهيمنية، تتأسّس على حق اليهود في استيطان أرض فلسطين الكاملة. هذا يفيد بأن إسرائيل تتحضّر لمواجهة كل السيناريوات، وأن حدود مساومتها لا تتعدى التنازل عن المناطق الكثيفة السكان في الضفة، ومنح الكيان الفلسطيني سلطات محدودة فقط، حتى لو كان بمرتبة دولة في الأممالمتحدة، مع علم ونشيد وحكومة وسفارات ورقم وطني وأجهزة أمن ومجلس تشريعي. كما يفيد ذلك بأن الصراع مع إسرائيل لن ينتهي، حتى لو ذهبت القيادة الفلسطينية نحو أقصى التنازلات، لأن كلاً من الطرفين، أي الإسرائيليين والفلسطينيين، يتصارعون ليس على الأرض فقط، وإنما على الموارد أيضاً، وعلى السيادة وتقرير المصير والرموز والهوية، وعلى الماضي والمستقبل. المشكلة أن القيادة الإسرائيلية تبدو، في الصراع الجاري، أكثر تساوقاً مع شعبها، على خلاف القيادة الفلسطينية، التي لا تبدي الحد الأدنى من احتضان أشكال المقاومة الشعبية، مع علاقات التنسيق الأمني مع إسرائيل، ومع ارتهانها لخيار واحد، لا تبدو انها راغبة، او مؤهلة، لتغييره، باختبار خيارات بديلة او حتى موازية. هكذا، ففي حين تصارع إسرائيل الفلسطينيين على كل شيء في الضفة الغربية، بعد أن اطمأنت إلى تسليمهم بها في مناطق 1948، ما زالت القيادة الفلسطينية مقيمة عند خيارها إقامة دولة في أراضي الضفة، التي تتقلص يوماً بعد يوم، بدلاً من قلب الطاولة، والعودة إلى مصارعة إسرائيل على قيم الحقيقة والعدالة والحرية والكرامة والحق في فلسطين الكاملة، أو التسهيل على شعبها، على الأقل، لتحقيق هذه النقلة، طالما أنه قادر على ابتداع أشكال المقاومة التي تتناسب مع إمكاناته وظروفه. أليس هذا ما فعله الفلسطينيون في انتفاضتهم الشعبية الأولى، من دون الفصائل، ومن دون المقاومة المسلحة؟ * كاتب فلسطيني