إنها رائحة الزمن الذي يطل برأسه محلّقاً محتفظاً بتواريخ وتراث وفنون وذكريات تخرج من جنبات حوانيت ودكاكين تحوي كنوزاً من أرقى قطع الأثاث والتحف والعاديات (الأنتيكات) التي تعود إلى أكثر من 150 عاماً... ما زالت رائحتها تعبق في أزقّة حي العطارين، ذلك الحي العتيق الذي يتوسط الإسكندرية الكوزموبوليتانية التي جمعت عدداً كبيراً من الجنسيات والحضارات والثقافات والانتماءات مكونة مزيجاً فريداً ونادراً، لوّن أحياءها بصبغة غنية بالتنوّع والتسامح والتفاعل الثقافي التي صنعت مدينة الإسكندرية روحها العالمية منها. شارع العطارين الذي يتوسط الحي الذي يحمل الاسم نفسه، ما زال محتفظاً برونق المدينة التاريخي بهندسته المعمارية ذات الطرز الإيطالية والإنكليزية والزخارف القوطية، وواجهات المحلات القديمة التي تذكّر بمجد هذا الشارع. وما هي إلا خطوات قليلة حتى يرى الزائر أصناف أنتيكات عدّة، يأسره فيه هوس اقتناء التحف الكبيرة والصغيرة المرصوصة بعناية من آنية عثمانية، وأخرى من الخزف السيفر الفرنسي الفاخر، المايسن الألماني والفازات الصينية المينغ وشمعدانات فرنسية ورومانية وثريّات (نجف أو مصابيح كهربائية) نحاسية تتدلّى من السقف تعود إلى سبعين عاماً أو أكثر، وساعات توقف بها الزمن من عشرات السنين في انتظار من يبعث نبض الحياة في دقاتها، وقطع أثاث من مناضد أربيسك مطعّمة بالصدف إلى صالونات روسية وإيطالية وفرنسية وسجّاد إيراني شيرازي وكاشان وتبريز، ولا تخلو السوق من عملات قديمة معدنية وورقية وطوابع ووثائق تراثية وصور لأفراد من سلالة محمد علي باشا. يعود اسم سوق العطارين وفقاً للباحث في التراث أحمد فؤاد، إلى شهرته في بيع أثاث العرائس. وتكثر فيه محلات بيع الأخشاب والموبيليا وكانت تسمى «عطارة العروس». ثم ظهرت محلات بيع الأنتيكات والأثاث القديم والجديد مطلع القرن الماضي حين اعتُبرت الإسكندرية نقطة جذب للأوروبيين. واتخذ الأرمن والإيطاليون والشوام واليهود من السوق سكناً لهم عقب الحرب العالمية الأولى لتشابه أجوائها مع الأجواء الأورومتوسطية، وازدهرت سوق الأنتيكات والتحف في الخمسينات عقب التأميم الذي أدى إلى بيع ممتلكات الأجانب. ويؤكد تاجر التحف ناجي سيد أن محلات التحف والأنتيكات في العطارين حظيت بشهرة عالمية وأن تحفها كانت مدرجة في صالات عالمية مثل كريستيز وكاتساروس وسوذبيز، فيأتي إليها المهتمون بحثاً عن قطعة نادرة أو لوحة فنية أصلية. ويضيف: «زبائن الأنتيك أصحاب ذوق رفيع وثقافة راقية. ويرتبط هذا القطاع في شكل كبير بالأغنياء لأنهم يدفعون ثمن القطع غير مهتمين بالسعر المرتفع لأنهم يدركون أن قيمتها هي التاريخ وليس المال». ومن أشهر زوار سوق العطارين جوليانا ملكة هولندا، صوفيا ملكة إسبانيا (اليونانية الأصل والمولد) التي ترعرعت في الإسكندرية، والملكة فوزية. وكذلك الفنانة العالمية الراحلة داليدا والراحلة هند رستم التي كانت مولعة بالتحف والأنتيكات.