عرف الناس «الكوميديا» منذ العصور القديمة على أنها تكتب بقصد التسلية والبهجة والفرح، كما يصفها الكثير من المتخصصين في مجال العمل الكوميدي، سواء أكان على المسرح أم في الأفلام. وفي بدايات العمل التلفزيوني كانت المشاهد الصامتة التي يقدمها شارلي شابلن مضحكة ومسلية، وتجد إقبالاً وحضوراً بين الناس. وفي عصرنا الحالي، اشتهر الممثل البريطاني روان اتكينسون والمعروف ب«مستر بِن»، بتقديم الكوميديا المضحكة بأسلوب مختلف ومتغير، وهو ما جعله الرقم واحد في دور السينما، ومحبباً لدى الكثير من الناس، لكونه يقدم عروضاً مضحكةً لا ترتبط بالسياسة ولا الانتقاد المباشر. وفي عالمنا العربي، ارتبطت الكوميديا بالسياسة وانتقاد مؤسسات الدولة، فكانت مزيجاً بين التسلية والانتقاد، أما المجتمع السعودي حتى قبل ربع قرن كان معروفاً عنه بمجتمع الدم الثقيل، يحب أن يشاهد الكوميديا الجاهزة ويضحك ويفرح، إنما لا يحب أن يكون صاحب دور، حتى إن مسلسلات التراجيديا حققت شهرة واسعة في الماضي على رغم أنها لا تحمل مواقف كوميدية إلا قليلاً، وهي للضحك والتسلية، وخلال ال50 العام الماضية حتى التسعينات الميلادية، برز كممثلين معروفين في الكوميديا المسلية، مثل: سعد خضر والراحل بكر الشدي ومحمد المفرح المعروف «بأبو مسامح» في أدوار البخل، وفي المنطقة الغربية برز لطفي زيني وحسن دردير، إلا أن ممثلي التراجيديا حينها كانوا أكثر شهرة، مثل: محمد حمزة ومحمد بخش ومطرب فواز وغيرهم. وهذا يعني أن الكوميديا وقتها كانت للتسلية والضحك وليست في شكل فج كما هو حاصل الآن، لهذا كان الممثل الكوميدي عملة نادرة في المشهد الدرامي السعودي في الماضي. النقلة الحقيقية من وجهة نظري للكوميديا السعودية التي انتقلت من مرحلة التسلية والضحك ضمن الإطار الدرامي إلى الكوميديا الساخرة ذات الانتقاد اللاذع للمؤسسات الحكومية وخدماتها، بدأت من حلقات طاش ما طاش التي قام بأدوارها ناصر القصبي وعبدالله السدحان قبل أكثر من عقدين، وهي الكوميديا التي لاقت إعجاباً واستحساناً من الجمهور، وأيضا كانت من أحد الأعمال التلفزيونية الجريئة المغطاة بالسخرية لواقع الكثير من الأحوال، ولهذا نجح «طاش ما طاش» قبل أن يتوقف منذ أكثر من عامين، وكان لهما ولفريق العمل معهما، تأسيس «كوميديا» جديدة غير تلك التي تعودنا أن نراها في «الدراما» السعودية، وهي ساخرة وقوية ومؤدية وموصلة للرسالة بطريقة مباشرة ومضحكة ومسلية للناس، كأنما تحدثت عن معاناتهم بصدقية، لهذا حققت شهرة واسعة وشعبية كبيرة ليس على المستوى المحلي بل حتى الشارع الخليجي والعربي، لأنه وجد في هذه المواقف صورة المواطن السعودي ومأساة صوته، ولعل المتابع ربما يرى أن وتيرة الانتقاد في المشاهد الكوميدية ارتفعت مع ارتفاع معاناة المواطن وحاجاته ووعود المسؤولين، والكثير من السلوكيات الاجتماعية الخاطئة، فالمواطن السعودي حينما كان يشاهد «طاش ما طاش» يرى نفسه على الشاشة، لهذا كان يعطي جل وقته، ويستمتع ويضحك من قلبه، وهذا ما دفع الناس إلى تقبل كل حلقاته التي عرضت خلال العقدين الماضيين، وتلا ذلك ظهور مسلسلات كوميدية أخرى بالنمط والأسلوب نفسه، فأصبح الرهان على من يقدم للمشاهد جرأة أكبر وسخرية أكثر وانتقاداً لاذعاً، فظهر «سكتم بكتم» و«وآي فآي»، حتى أن «الدراما» المحلية أصيبت بالكساد أمام الطلب المرتفع للبرامج الكوميدية في السعودية، وتحول شهر رمضان أحد أهم الأشهر لدى السعوديين «للضحك»، وتتنافس شركات الإنتاج على تقديم مسلسلات مضحكة تحمل «الكوميديا» الانتقادية والساخرة من واقع المجتمع، حتى وصل الأمر إلى أن الانتقاد والضحك والسخرية من أداء مؤسسات الحكومة التي أصبحت من أشهر نجوم المجتمع، ونجح أبطال «طاش ما طاش» السابقون فهد الحيان وعبدالإله السناني وبشير غنيم ويوسف الجراح وفايز المالكي وغيرهم الكثير إلى الانفصال وتشكيل مجموعات، لإنتاج برامج بالأسلوب نفسه مع تغيير في الأداء. هذا التحول في «الكوميديا» السعودية، ظهر في شكل لافت مع غياب الدور الصحافي في مناقشة القضايا الاجتماعية والإنسانية كوسيط ملمع للشخصيات والمؤسسات الحكومية، وعدم قدرتها على الانتقاد أو معالجة المشكلات الاجتماعية، فوجد المشاهدون ضالتهم في هذه البرامج كمتنفس، ومع الزخم الهائل تحولت هذه البرامج إلى أنها تكرر نفسها في الطرح والمعالجة، ومنذ ثلاثة أعوام تواجه البرامج الكوميدية انتكاسة وعدم رضا، وهذا أمر طبيعي، فالمشاهد لا يحب أن يرى أفكاراً مكررةً في ظل وجود مجالات عدة أخرى، فانتقلت العدوى من الشاشة الصغيرة إلى رحاب أوسع مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وتطور تقنيات الاتصال، وأصبح أي شخص ينتقد سلوكيات المجتمع، ويسخر بمؤسسات الدولة «نجماً مشهوراً»، ودخل «يوتيوب» كمنافس في تقديم البرامج الكوميدية، فأخرج لنا «إيش اللي» الذي يقدمه بدر صالح، و«نون النسوة» الذي تقدمه هتون قاضي و«على الطاير» نجمه عمر حسين، و«صاحي» و«بمبي» و«نشرة التاسعة إلا ربع»، وطابور طويل من البرامج الكوميدية الساخرة. كل هذا التوجه منح السعوديين المركز الأول عالمياً في مشاهدة «يوتيوب» بعدد برامج أكثر شعبية تصل إلى 25 برنامجاً كوميدياً من بين 240 مليون مشاهدة يومياً في العالم العربي «لليوتيوب»، احتل السعوديون 190 مليون مشاهدة في اليوم، محتلين بذلك المركز الأول. المشهد الكوميدي في السعودية يواصل ارتفاعاته مع غياب القانون والتشريعات التي تعيد الأمور إلى نصابها، كل هذه أسهمت في تشكيل «الكوميديا» السعودية، وجعلها من أهم فنون عالم التمثيل، ليس في العالم العربي فحسب، بل في العالم أجمعه، حتى إن الكثيرين أصبحوا يستمتعون بالمفردات المستخدمة في السخرية، وتبقى الكوميديا التي تقوم على الانتقاد والسخرية باقية، ربما تتطور مع ظهور تقنيات جديدة، إنما الشيء المهم الذي يجب أن نعرفه هو أن مثل هذه الكوميديا لا تظهر إلا في مجتمعات تعاني من مشكلات اجتماعية، بعدها يمكن أن نرى «كوميديا» مضحكة ومسلية، كما يقدمها «مستر بِن». * كاتب وصحافي اقتصادي. [email protected] jbanoon@