تشبه عناصر ما يسمّيه وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، «اتفاق - إطار» يقترحه لحل المسألة الفلسطينية، وصفات الطبخ. يخفض هنا مقادير السمن ليضيف بهاراً أو مرقاً هناك. يدوزن مختلف الصيغ، فإن لم تمش هذه، أمكن تعديلها بتلك. هو مصمم على النجاح حيث فشل سواه، وكفى. وفي هذا لا تهم أغراضه، سواء لأنه «مسيحاني» كما نعته وزير الدفاع الإسرائيلي موشي يعالون (بمعنى تبشيري أو هدايتي)، أو لأنه يريد نوبل للسلام، كما أكمل شاتماً وساخراً. والاعتذار اللاحق عن هذه الأقوال يقع في باب الاعتبارات الديبلوماسية لكنه لا يلغي تعبيرها عن قناعات المسؤولين الإسرائيليين، الذين يزدادون تشنجاً باضطراد، ما يجعل ليبرمان معتدلاً مقارنة بيعالون، فيوجه عتباً للأخير على أقواله، ويجعل نتانياهو حمامة سلام! وبخلاف ما قد يبدو كمعنى لهذا المنحى المضطرد، فهو مؤشر على الإحساس العميق ب «الاستحالة»، أي على المأزق الوجودي لإسرائيل، وليس دليلاً على اطمئنانها إلى تفوقها والى امتلاكها ترف العربدة حتى على حاميها وحليفها. يعالون ذكر أنه يحسب الأمن من منظور التهديد الذي يمثله صبي فلسطيني عمره اليوم خمسة أعوام. وهذا، فعلياً، لا حل له إلا بإبادة الطفل/الأطفال. ولتعذّر ذلك، يعتقد أن إقرار الفلسطينيين بالصفة اليهودية لدولة إسرائيل قد يعالج هذا التهديد، لأنه يلغي مخاطر الديموغرافيا من جهة، والمطالبات بإعادة النظر بالصيغة نفسها (سواء عبر الدعوات إلى دولة واحدة ثنائية القومية أو إلى دولة واحدة لكل مواطنيها الخ...) من جهة أخرى. الإقرار ب «إسرائيل دولة الشعب اليهودي» هو الشعار السياسي الإسرائيلي اليوم، والذي يلقى موافقة أميركية (بعدما سلّم بالأمر أوباما في زيارته الأخيرة لإسرائيل في آذار/مارس الماضي)، بل يقال دولية وعربية. وذلك غير مفاجئ، ليس فحسب بسبب الميل الى إرضاء إسرائيل، بل لأنه يمثِّل في شكل ما امتداداً منطقياً للقرار الأصلي بإنشاء هذا الكيان. وما ينقصه اليوم، بعد خمسة وستين عاماً، ويجعله تجديداً عنيفاً للاعتداء السالف، هو الكيان الآخر، الفلسطيني، الذي نص عليه قرار التقسيم... إنها مقالب التاريخ! لكن تسليم العالم كله بالصفة اليهودية للدولة لا يهم إن لم يسلم بها الفلسطينيون أنفسهم، فيتخلون عن سرديتهم للتاريخ، ويشرّعون رواية قاتلهم، ويحولون المسألة المثارة الى ترتيبات تخصهم ك «أقلية» (بغض النظر عن العدد)، وكاستثناء يمكن تحمل بقائه، في مرتبة ثانية بالضرورة. يتبع ذلك بالطبع التخلي عن سائر أجزاء الرواية الفلسطينية، وعلى رأسها حق العودة، أي التجسيد القانوني لوقوع النكبة، لوجودها أساساً. وهو ما يفتح الباب واسعاً لاستمرار عملية التزوير، فيقر بأن اللاجئين الثمانمئة ألف الذين اجبروا بوسائل شتى على الرحيل عن فلسطين في 1948، قد غادروها بملء إرادتهم. الصفة اليهودية، هذا التحصين الذي يبدو متيناً ونهائياً، هو في الحقيقة وهمٌ اذا ما قيس بالوقائع. فذاك الصبي وأقرانه لن يوقفهم اتفاق عام ومحكم حالما يتمكنون من التمرد. ولا يوجد في السياسة ما لا يمكن مراجعته أو الانقلاب عليه وتدميره... بدلالة التاريخ الذي شهد انهيار امبراطوريات مقدسة. لكن هذا ما بيد إسرائيل لتفعله. وهي تكسب الوقت ليس إلا، ولا تملك سوى ذلك ومعه المراهنة على استمرار سوء حال المجتمعات والدول المحيطة بها، فتنجو، بمعنى تستمر، محافِظة على هذا القدر من الازدهار أو ذاك، وفي الوقت نفسه على قدر عال من الشعور بالهشاشة وبالرعب من كل نأمة، كالخوف مما تسميه «حملة نزع الشرعية» عنها، المتمثلة بحركة «المقاطعة وفرض العقوبات وسحب الاستثمارات» (BDS) التي يتولاها مناضلون من كل أنحاء العالم، وقد اعتبرها نتانياهو في غير تصريح خطراً استراتيجياً. وهذه محصلة مفارِقة تماماً للفكرة الأصلية، أي لنشأة إسرائيل كمشروع عسكري/تقني/اقتصادي للهيمنة على كل محيطها، بكسره وإخضاعه وتسليمه لها بالقيادة، ونهبه (من جملة خصائص الاستعمار!). حقاً، وكما يقول يعالون بفجاجة مدهشة، ويقول نتانياهو بصيغ اخرى، وإن بدت أملس إلا أنها فعلياً لا تختلف: «ماذا يفعل كيري وسط كل ذلك؟». المشكلة أن البراغماتية الطموحة والمتفائلة التي يبديها وزير الخارجية لا تكفي وحدها لنسج خيوط حل مستقر، ناهيك عن أن يكون نهائياً. يسعى الرجل إلى إشراك الأطراف العربية بطبخته، إن لم يكن لشيء فلتوفير الغطاء العربي للسلطة الفلسطينية في ما لو حزمت أمرها ووافقت على التوقيع على صفقته الشاملة. ويستميل الأردن، موحياً له بدور أساسي في حل لغم الغور، أي المنطقة الحدودية التي تفصله عن الضفة الغربية، أو المجرى الغربي لنهر الأردن. وهذا تريد اسرائيل ضمه (وفق مشروع تقدم به الليكود أخيراً إلى الكنيست) أو على الأقل إبقاءه تحت السيطرة المباشرة لقواتها، بحجة الأمن. يقترح كيري قوات أميركية - أردنية مشتركة! ويعرض فلوساً، الكثير من الفلوس، على الأردن وعلى السلطة الفلسطينية ليوافقا، الأول على الترتيب، والثانية على استثناء الغور من السيادة الفلسطينية، ويهدد أيضاً بأنه في حال لم ينشط الأردن في الوجهة المطلوبة، فإن الحل النهائي قد يتطلب منح المليوني لاجئ فلسطيني فيه... الجنسية الكاملة! كما تعود مفردات الفيدرالية والكونفيدرالية الى التداول من جديد. وكيري يشجع الإسرائيليين على تبني مقترح استئجار أراضي الضفة الغربية التي تقوم عليها المستوطنات الهائلة (يقال 750 ألف مستوطن إسرائيلي، بينما الرقم الرسمي يتبنى 550 ألفاً) لمدة طويلة جداً... أربعون سنة على الأقل! وفي الوقت نفسه، يشرح نتانياهو لكيري أن مستوطنة بيت إيل مثلاً، التي تبعد بالكاد عشرة كيلومترات عن رام الله، مكان توراتي مقدس لأنها البقعة التي شهدت حلم يعقوب بالجنة. فهي إذاً ليست للاستئجار، وبالطبع ليست للإخلاء. وهكذا في كل شيء، وعلى رأس كل شيء القدس، وتوسيع المستوطنات الذي لا يتوقف... بينما تمّحي غزة، فلا يبدو لها ذكر في الملفات التي يقلّبها كيري. اتفاق - إطار إذاً، يجدد أوسلو بعد مرور عشرين عاماً عليه. ولكنه من فرط «خزعبلاته» (والمقصود بها تركيباته اللامتناهية والمدهشة)، يمثل بالنسبة الى الفلسطينيين تراجعاً عن أوسلو نفسه، في ما يحمله من معنى عام، وفي الترتيبات المتراكبة على حد سواء.