حين يكتب الإنسان عن الفلسفة فهو لا يدري من أين يبدأ؟ ليست الحيرة هي السبب؟ لكن السبب هي الفلسفة ذاتها، فالفلسفة «لا موضوع لها» كما يقول «لوي ألتوسير»، إذ الفلسفة كما عرفها «جيل دلوز» هي «فن اختراع المفاهيم»، وهو تعريف يحمل جوهر الفلسفة ذاتها، إذ يجعلها على طبيعتها سؤلاً مفتوحاً أمام كل الإدراكات والتطورات. ليس هذا الموضوع «فلسفة الفقه» من المواضيع المهملة. فهناك اهتمام كبير حول هذا الموضوع من خلال دراسات قائمة، ومحاولات جادة لتكوين نظريات علمية حول فلسفة الفقه، وإن تعددت المسميات من نحو: «ابستمولوجيا» الفقه، وعلم اجتماع الفقه، وعلم علم الفقه، و«سيسيولوجيا» الفقه وغيرها من المسميات التي تنتهي إلى ممارسة علمية واحدة هي الفلسفة الفقهية. وإذا كانت مهمة الفلسفة تنحصر في تصور ما هو كائن كما يعبر «هيغل»، فإن «فلسفة الفقه» ثنائية «التصور والحكم»، أي بعبارة فقهية أصولية «الحكم على الشيء فرع عن تصوره»، وهذا يفتح المجال أمام الفقه للتطور الذاتي من خلال ممارسة الفقيه الفيلسوف، فكلما تغير أو تطور التصور تغيرت الأحكام، وبعبارة القاعدة الفقهية: «الأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والظروف والأشخاص». ومن العبارات التي تلخص ممارسة فهمية لفلسفة الفقه قول الإمام ابن القيم: «موافقة الشريعة عدم مخالفتها». وإذا عزمنا على هذا المشروع الحضاري الكبير فليس من الممكن بناء «فلسفة الفقه» من دون الإحاطة ب«علم أصول الفقه، وعلم القواعد الفقهية، وعلم مقاصد الشريعة» مع الوعي بتاريخية الفقه وتطوراته من مرحلة ما قبل التدوين ومرحلة ما بعد التدوين، والتدخلات السياسية والاجتماعية التي أثرت وتأثرت في تشكيل المفهوم الفقهي العام. والسؤال الأول في هذه المنظومة: ما الغائب في أصول الفقه والقواعد الفقهية ومقاصد الشريعة؟ إذ إن فعل التطوير انطلاقاً من الموجود هو تراكم في الخطأ، لكن التفتيش عن الغائب في هذه الثلاثة وإعادة التكامل إليها، ثم بناء النظرية على المجموعة التكاملية لها هو الذي سيحقق أهداف الفلسفة الفقهية، والقارئ المتخصص يعلم بأن علم أصول الفقه لديه إشكالات كبيرة، رافقته منذ النشأة، ولا بد من إعادة الوعي بها. إنما تدعونا إلى «الفلسفة الفقهية» أمور عدة، من أهمها: 1- أن الفلسفة الفقهية هي التي ستخلق الانسجام والمنظومية، وتقضي على التفككية والتعارض داخل الفكر الفقهي. ومن ثم ستقضي على الآثار الناجمة عن ذلك في المسلم المتلقي لهذا الفقه والمكلف باعتماده. إن مسلم اليوم لا يزال يعيد إنتاج نفسه من غير وعي بقيمة وجوده، وفاعليته متردية ومترددة ومستهلكة، وما لهذا خلق الإنسان! 2- أن العالم الذي يعيشه المسلم اليوم، والعالم الذي ينتمي مستقبله إليه هو عالم التحولات السريعة والقوية، وإذا كانت فكرة الفقه أن الأحكام تتجدد لناس مع الأحداث، كما نقل الزركشي عن العز ابن عبدالسلام أنه قال: «يحدث للناس في كل زمانٍ من الأحكام ما يناسبهم»، وقد تحدث ابن القيم عن قاعدة «تغير الفتوى»، ثم قال: «هذا فصل عظيم النفع جداً، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها»، وبناء عليه فالفقه الإسلامي بحاجة إلى «القوة والسرعة» التي هي طبيعة العصر، والفلسفة الفقهية خير أداة للوعي الفقهي الحاضر والمستقبل. 3- شخصية الفقيه لم تعد هي الشخصية الكلاسيكية التي تؤلف بين الأقوال وتشرح المتون، إن شخصية الفقيه اليوم أكثر شمولية ومعلوماتية واتصالاتية، مع تعدد في القدرات والإمكانات التي تتيح له الحضور الفاعل، وتجعله متناغماً مع الحياة جيد القراءة لها، فشخصية الفقيه التقليدي لا تفي بمقام الفقيه في الناس والحياة، أما شخصية الفقيه الفيلسوف فهي الواعية والمتناغمة مع معطيات العصر وتقنياته ومستجداته، فهو يقترح دلالة النص، ويفتح آفاقه. ويتجاوز لأجل الحقيقة كل التراكمات العائقة، ومن خلاله تصبح الشريعة صالحة لكل زمان ومكان. إنني أنتمي إلى هذا الرأي، وأرجو ألا تكون معارضته لأجل الارتهان الذهني السلبي عن الفلسفة، والخلط بينها والمنطق! أو بينها وعلم الكلام، فكل واحد منها علم قائم كما يعلمه من يريد أن يفهم، وما توفيقي إلا بالله. * عضو مجلس الشورى. [email protected] alduhaim@