انقسم دارسو الفيلسوف العربي الكبير أبو وليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي (520- 595 ه، 1126-1198م)، المعروف بابن رشد إلى اتجاهين اثنين في فهم الصلة بين الفقه والفلسفة عنده. الاتجاه الأول يقلّل من شأن الفقه في فكر ابن رشد وحياته إلى حدّ تشكيك البعض في نسبة كتاب «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» أهم مؤلفاته الفقهية إليه. أما دعاة الرأي الثاني فيذهبون إلى التقرير بوجود ازدواجية كاملة بين ابن رشد الفقيه وابن رشد الفيلسوف، وذلك أن أبا الوليد، كان - بحكم مهنة القضاء التي احترفها والبيئة التي نشأ فيها - وبشهادة كتابيه «بداية المجتهد» و «مختصر المستصفى»، فقيهاً من الطبقة العليا للفقهاء، له رأي يعتد به في أبواب «الخلاف العالي». لكن ابن رشد كان مشغولاً بالفلسفة تفكيراً وتدريساً عن الفقه ومجالس الفقهاء، وليس لما كتبه في الفقه صلة بالفلسفة أو ما يتصل بها بسبب من الأسباب. وهكذا نجد أن الفريقين يلتقيان عند الحكم بانعدام الصلة العضوية بين الفقه والفلسفة في فكر ابن رشد، وبالتالي فإنهما ينزعان عن فكره سمة النسقية والتكامل أي ما يمكن أن يكوّن منظومة فكرية متكاملة. وفي مقابل هذين الاتجاهين، يحاول إبراهيم بورشاشن أن يبرهن في كتابه «الفقه والفلسفة في الخطاب الرشدي» (دار المدار الإسلامي - بيروت - 2010) على وجود منظومة فكرية متكاملة عند ابن رشد تجمع بين المعارف الشرعية الإسلامية (النحو والفقه والأصول) والعقلية (المنطق والفلسفة) والتجريبية العلمية (الطب، الفلك، والطبيعة). ويسعى بورشاشن إلى إعادة ابن رشد إنسانياً إلى جسم الثقافة العربية الإسلامية التي نشأ فيها فقيهاً وترعرع فيها فيلسوفاً يرى في أصول الفقه مادة لنظر عقل رفيع، وفقيهاً يرى في الفلسفة حكمة يقرّها الفقه وتقبلها الشريعة. إنها محاولة لإبراز وحدة الخطاب الرشدي وانسجامه. ويرى بورشاشن أن الدراسات التي تناولت فقه ابن رشد لا تزال قليلة، بينما الدراسات التي تتناول علاقة الفقه بالفلسفة عنده تكاد تكون في حكم الغياب المطلق اللهم سوى إشارات هنا وهناك، أو مقالات متفرقة تفتح أعمالاً ولا تقدم ما يشفي الغليل. ويعود ذلك إلى غياب صورة ابن رشد الفقيه عن الرواد الأوائل الذين كتبوا عن ابن رشد، وخصوصاً مدشنَي الدرس الفلسفي الرشدي، مونك (1805 – 1867) وإرنست رينان (1823- 1892). ولعل أحد أسباب هذا الموقف هو تأخّر نشر الأعمال الأصيلة لابن رشد. فكتاب «فصل المقال» لم ينشر باللغة الفرنسية إلا في سنة 1905 بعدما نشر باللغة العربية لأول مرة في القرن التاسع عشر مع كتاب «مناهج الأدلة» على يد المستشرق الألماني ماركوس ميلر الذي ترجمهما أيضاً إلى اللاتينية، ونشرا في عام 1875. وكتاب «بداية المجتهد» لن يشيع في الناس إلا في بدايات القرن العشرين، و «مختصر المستصفى» لن يرى النور إلا في أواخر القرن العشرين مع نشرة جمال الدين العلوي. لكن نشر «بداية المجتهد» في المشرق في بداية القرن الماضي، لا يعني أنه كان مجهولاً تماماً، إذ أن الشيعة الاثني عشرية كانوا يدرّسون الكتاب في حوزاتهم العلمية ويعدّونه مرجعاً مهماً في دراسة الفقه المقارن. وفي غياب أي دراسة داخلية لهذه الكتب الفقهية التي كانت مفقودة حينها، قدّم المستشرق الفرنسي رينان إلى العالم الغربي المعاصر ابن رشد كفيلسوف (شارح) مخلص لأرسطو، ولكن من دون فكر أصيل. والسبب هو، كما قال الباحث الفرنسي روجيه أرناليدز، أن رينان كان يجهل أو يستخف ب «المتن الديني الفقهي» لابن رشد، وكان ينقصه فهم الخلفية الفلسفية للشروح الرشدية. وقد تم تكريس هذا التصوّر عن ابن رشد على رغم طبع نشرات ميلر، وذلك لقوة ما فعلته دراسة رينان في الوسط العلمي حيث ظل ابن رشد شارحاً لأرسطو ومن دون أصالة فلسفية. والغريب أن الفهم العربي لابن رشد قد وقع أسيراً لهذا التصوّر. لكن تقدّم الدراسات الرشدية سيغني المكتبة العلمية بدراسات قيّمة ستصحّح كثيراً من هذه الآراء المسبقة، وتفتح آفاقاً جديدة للعمل في حقل الرشديات. وكان أول من قدّم دراسة وافية قيّمة تناولت بالدرس والتحليل الجانب الفقهي لابن رشد هو المستشرق الفرنسي برونشفيك، وهي الدراسة المعنونة ب «ابن رشد الفقيه». فإبن رشد عنده قد ضمن شهرته فقيهاً كبيراً عند الموحّدين بكتابه «بداية المجتهد». وقد قام بفحص الكتاب متحدثاً عنه كنصّ ينتمي إلى النوع الكلاسيكي للاختلاف، يدور حول المواد التي تمثّل جوهر الكتب الفقهية للمذاهب السنية. وأكد أن مرحلة «بداية المجتهد» هي مرحلة نضجه التام، إذ يبدو ذلك في عدم دفاع ابن رشد عن المذهب المالكي أمام المذاهب الأخرى لاختياره جانب الاجتهاد على التقليد. فلقد كان طموح ابن رشد في هذا السياق هو توفير وثائق أساسية أولية... تسمح بفتح الطريق للاجتهاد». ويظهر الكتاب أنه يشكل «النموذج الأكثر اكتمالاً للتطبيق المنهجي لأصول الفقه باعتباره منهجاً تأويلياً ومحكّاً نظرياً لمجموع الفقه السني». وقد اقتفى الكثير من الدارسين سبيل برونشفيك بالاحتفاء بابن رشد الفقيه، لكن عدم اطلاع أكثرهم على الدراسة القيّمة لهذا الباحث الفرنسي جعل دراساتهم لا تحقق تراكماً جيداً، على رغم ما قدمته من سياقات اجتماعية – ثقافية مهمة لتأطير التجربة الفقهية لابن رشد، كما نجد عند الباحثين عبدالله كنون ومحمد حجي والعبيدي وحسن القرشي ومحمود علي مكي. وقد قاربت دراستا العبيدي، «ابن رشد: حياته، علمه، فقهه» و «ابن رشد وعلوم الشريعة الإسلامية» في شكل مباشر مسألة علاقة الفقه بالفلسفة في بيان التأثير الفلسفي في العمل الفقهي الرشدي، حيث حاول أن يبيّن انطلاق ابن رشد من الفلسفة وفرض روحها على الدين. وهكذا ذهب رينان وتابعه حسن القرشي وطه عبدالرحمن إلى عدم وجود صلة بين الجانب الفقهي والجانب الفلسفي عند ابن رشد ليحكموا بالفصل في الممارسة العلمية الرشدية، لكن الدراسات الرشدية المعاصرة اليوم تحرص على تجاوز هذه التصوّرات، كما يظهر عند روجيه أرناليدز وجمال الدين العلوي. فقد عقد أرناليدز في كتابه «ابن رشد عقلاني في الإسلام» فصلاً خاصاً عن ابن رشد الفقيه يحرص فيه على موضعة ابن رشد الفقيه بجانب ابن رشد الفيلسوف، مثمناً الدراسة القيّمة لبرونشفيك واصفاً إياها بالأصالة... فبعد أن أبرز أرناليدز علاقة ابن رشد بالقضاء الذي مارسه بوعي وقف عند أهمية الخطابة في فعل الحكم الذي يعطي أهمية لقيمة الكلمة وقيمة الحجة والدليل. ويمضي أرناليدز في المقارنة بين نصّ أرسطو ونصّ ابن رشد مبرزاً أصالة ابن رشد في كتاب «الخطابة» من خلال ما أضافه الفقيه إلى الفيلسوف. فابن رشد يعالج في هذا الكتاب جوهر المسائل التي يطرحها علم أصول الفقه، خصوصاً حينما يسكت القرآن عن بعض القضايا والحوادث. كما يقف أرناليدز عند نقد ابن رشد للحديث وهو النقد الذي شكّل في الإسلام المنهج الأبرز في النقد التاريخي، مبرزاً تأثر الممارسة الفلسفية الرشدية بهذا النقد. لقد كان القصد من كتاب أرناليدز بيان وحدة متن ابن رشد، التي تتجلّى في مستويات مختلفة، مستواه الشخصي، ومستوى وظائفه الاجتماعية، ومستوى فكره، ومستوى الإيمان الديني؛ فابن رشد عرف كيف يجعل من هذا كلّه كلاً منسجماً. وهو بهذا ينتصر لوحدة المتن الرشدي وللممارسة العلمية الرشدية في بعدها الفلسفي والفقهي والكلامي. ويعتبر بورشاشن أن الحديث عن علاقة القول الفقهي بالقول الفلسفي عند ابن رشد سيظل قولاً غير مكتمل ما دمنا لا نمتلك المتن الفقهي والديني الكامل لابن رشد، فنحن لا نملك إلى حدّ الآن شرح ابن رشد للعقيدة المهدوية، وهو الشرح المسمّى ب «شرح الحمرانية»، وهو كتاب مهم سيلقي الكثير من الضوء على العلاقة الفقهية التي نسجها ابن رشد مع العقيدة الرسمية للموحّدين، فالكتاب مفقود. ويذكر بورشاشن أن الباحث محمد بنشريفة قد ألمح في كتابه «ابن رشد الحفيد، دراسة وثائقية» إلى إشارات تدل على أن هذا الكتاب ليس منا ببعيد. كما نفتقد مقالته «كيف يُدعى الأصم إلى الدخول إلى الإسلام»، وهي إن صحّت، تثبت بعضاً من طريقة ابن رشد في توظيف معارفه الفلسفية والشرعية في الدعوة إلى ملّته، وكذلك شرحه لكتاب «المقدمات» لجده، وهو يمكن أن يعمق نظرتنا إلى الشخصية الفقهية لابن رشد ويجلي لنا الوجه الآخر لفيلسوف قرطبة. لقد حاول بورشاشن البرهنة على فرضيتين هما: الأولى أن شخصية ابن رشد الفلسفية خرجت من أسرة فقهية كان شعارها الاجتهاد ونبذ التقليد، فجده وأبوه فقيهان، وخرجت من عالم فقهي احتلّ فيه أبو حامد الغزالي والكتب الفقهية «المتنوّرة» العصب الأكبر، حيث أسست هذه الأرضية الفقهية لشخصيته الفلسفية. والفرضية الثانية أن شخصية ابن رشد الفقهية ستظل تمارس تأثيرها على شخصيته الفلسفية، على رغم استقلال الأخيرة، وذلك من خلال شخصيته كقاضٍ أو من خلال استئناسه بمفاهيم فقهية من أجل قراءة النصوص الفلسفية.