تبدو الساحة العربية، بعد قمة الدوحة، وكأنها تراوح في مكانها من دون اقتحام للأمام تفاءل به البعض قبلها، أو نكوص حاد إلى الخلف خشاه البعض عشية عقدها مع تدني التمثيل المصري، وبروز الحضور الليبى المربك، مع الحضور السوداني المفاجئ. وربما ساعد على وقف التدهور حكمة وصبر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وهدوء نبرة خطاب الرئيس مبارك إلى القمة، والتعامل القطري المرن مع التمثيل المصري، والتزام الرئيس السوري بالحدود الموضوعية في ما يتعلق بموضوع المبادرة العربية للسلام، وكذلك غياب أي تمثيل لإيران. غير أن القمة التي لم تشهد إجهاضاً، لم تشهد في الوقت نفسه ميلاداً جديداً وهكذا تظل الساحة العربية حبلى بقضية المصالحة سواء على المستوى الفلسطيني بين «حماس» و»فتح»، أو على المستوى القومي بين المحورين الموصوفين بالمهادنة والممانعة، أي بين مصر والسعودية من جانب وسورية من جانب آخر، والدول الثلاث هي أعضاء ذلك المحور المشترك، الذي نهض بأعباء النظام الإقليمي، وواجه جل تحديات الواقع العربي في ربع القرن الماضي خصوصاً بعد انهماك العراق - وهو الضلع الرابع في المربع الجغرافي/ الحضاري الذي نهض بعبء التطور التاريخي العربي في القرن العشرين - في حربه الضروس والعبثية مع إيران. قبل أن يتعرض لعوامل التعرية السياسية بفعل توالي الأزمات، خصوصاً مع سفور الاتجاه اليميني المحافظ في الولاياتالمتحدة وشططه في الضغط على العالم العربي كله، وبروز التحدي الإقليمي الإيراني، ناهيك عن نمو العدوانية الإسرائيلية وعودتها إلى النزعة الهجومية، حيث لعبت عاصفة الحرب الإسرائيلية على لبنان دور المؤسس لتصدع هذا المحور، فيما لعب الهجوم الإسرائيلي الوحشي على غزة دور المكرس له. وفي سياق تنامي هذا الصدع، بدت سورية مندفعة أكثر نحو إيران، ومن ورائها «حزب الله» وحركة «حماس»، وفى أثرهما سارت قطر، وربما أيدت دول قليلة هذا المحور لمجرد أن لديها أزمات من نوع ما في علاقاتها مع الولاياتالمتحدة. فيما ظلت مصر والسعودية هما التمثيل الأبرز للحالة العربية العامة التي يمكن نعتها بحال «النظام العربي». وبينما جسد اجتماع الدوحة الطارئ إبان العدوان على غزة ذروة الانقسام بين المحورين، وكذلك ذروة الحرب الإعلامية المكشوفة، يبدو الأمل قائماً وكبيراً في أن تكون قمة الدوحة الدورية مختلفة في أجوائها، وفي المسارات التي تعقبها، غير أن المدى الذي يمكن أن تبلغه هذه المسارات من اختلاف وإيجابية يبقى هو السؤال المهم، الذي تتوقف الإجابة عنه على أمور عدة ربما كان من أهمها أمران أساسيان يتوجب على الطرفين المتخالفين أن يتعمقا في إدراكهما: الأمر الأول منهجي، ذلك أن المنهج «المهادن جداً» المنسوب ل «قوى الاعتدال» و «المندفع جداً» المنسوب ل «قوى الممانعة» يعانيان الدرجة نفسها من القصور، ولذا يبقيان عاجزين عن التعاطي الفعال مع جل تحدياتنا الراهنة، فإذا كان الاندفاع الشديد يولد أزمات جديدة أو يورط في صراعات مستجدة، فإن المهادنة الشديدة تعجز عن حل المشكلات القديمة، وتنمي الشعور بالإحباط، والذي يذكي بدوره عوامل التعرية السياسية، وربما يوفر المناخ المؤاتي للصراعات الجديدة. ويزيد من حدة ذلك الانقسام المنهجي أن كل منهج منهما يبدو مستنداً إلى فاعل خارجي، ومرتهناً بأجندة لا تنبع من الحس الاستراتيجي للمنطقة، بل تسعى إلى اغتنام حالة الركود التى تعيش. هذان الفاعلان الخارجيان يسعيان، وبالقدر نفسه، إلى بقاء الوضع العربي جامداً إلى المدى الذي يسمح لكليهما بإنجاز مشروعه الخاص، ولا يقصد أي منهما، إلى تعديل أو تعضيد الموقف العربي ذاته. ومن ثم تبدو الحاجة مشتركة، بمثل ما هي شديدة، إلى ردم الهوة بين المنهجين، لتستعيد الحركة الوطنية الفلسطينية وحدتها، مع استعادة التحالف المصري - السوري - السعودي فعاليته. وأما الأمر الثاني فهو استراتيجي، إذ يعول الطرفان على عامل الزمن لإنجاز تصوره، وهزيمة التصور الآخر، أي من خلال ثباته هو على موقفه، بينما تقود الأحداث إلى تآكل موقف الآخر. في هذا السياق تكتسب القدرة على التعطيل والإفشال أهمية تفوق القدرة على الفعل والمبادرة، لأن الأخيران يستلزمان تعاطياً مرناً «سياسيّاً» مع المشكلات، بما يدفع نحو تنازلات وحلول وسط، لا يبغي كلا الطرفين أن يدفع حسابها الآن، فلا سورية قادرة على تفكيك البنية الذهنية الحاكمة لممانعتها التقليدية، باعتبار ذلك نكوصاً عن «الثوابت المريحة» التي تسلمها لإيران، ولا مصر أو السعودية قادرتان على تجاوز الحدود التقليدية للفلك الأميركي، باعتبار أن ذلك ليس سوى «خطوة في الفراغ». وإذ تجيد الثقافة السياسية العربية ممارسة تكتيكات الإبطاء والدفاع السلبي عن النفس، تنمو قدرة «المعسكرين» على الإفشال المتبادل. غير أن هذه القدرة مهما تنامت لا يمكن نسبتها إلى النجاح السياسي أو الاستراتيجي. قد يستطيع طرف أن يخسر أقل من الآخر بفعل ضغط الحوادث وتسارعها، وقوة فعل الأطراف الخارجية حيث يكسب الحلفاء أو يخسر المناوئين. وقد يتصور هذا الطرف أو ذاك أن مجرد صغر حجم خسارته قياساً إلى الآخر، مكسباً، أو ربما تصور طرف أنه يكسب ولو على حساب المصالح القومية العامة، ولكن الحقيقة التي سوف تتبدى لكلا الطرفين بعد انتهاء السياقات الاستثنائية، وتوالي الأحداث، أن الجميع خاسرون فرادى وجماعات، وطنياً وقومياً، وأن ما نعيشه الآن من ارتهان للآخرين ورؤاهم ومشروعاتهم، لا يعدو واحدة من تلك اللحظات العربية المنكوبة، وسيئة السمعة على منوال حلف بغداد، والصراع على اليمن والحرب الأهلية فى لبنان وغيرها من لحظات تغطيها الوقائع المباشرة والمصالح الآنية، ولكن يفضحها حكم التاريخ وضمير الأمة ولو بعد حين. * كاتب مصري.