يقال ان الجامعات ليست جزراً، حالها من حال بيئتها الاجتماعية ونبض طلابها السياسي لن يشبه سوى نبض الشارع الذي يأتون منه ويعودون اليه يومياً. الا ان استنتاجاتٍ بهذه البساطة والبديهية لن تكفي وحدها لتقويم العمل السياسي الطلابي في جامعات لبنان بين منتصف تسعينات القرن الماضي واليوم. ومع ان حصر «الصراع» داخل الجامعات ما بين الأحزاب الطائفية من جهة والأحزاب والمجموعات اليسارية بمواجهتها، يبدو مغرياً لتلخيص طبيعة الحراك الطلابي في الجامعات، الا انه يبقى قاصراً عن الإحاطة بجوانبه كافة. تعتبر الجامعة الأميركية في بيروت «منبع الأفكار اليسارية والحركات الطلابية المطلبية» على حد تعبير احد الناشطين المتخرجين في الجامعة اللبنانية الأميركية. تجرى فيها، في تشرين الثاني (نوفمبر) من كل سنة، انتخابات طلابية اصبحت مع الوقت «ميزان الحراك الطلابي في البلد»، يقوم خلالها الطلاب بالتصويت لاختيار مجالس ممثلي الطلاب في الكليات (مجموع اعضائها 109)، إضافة الى الحكومة الطلابية المكونة من 18 مقعداً يرأسها عادة رئيس الجامعة مع نائب رئيس هو الطالب الذي حصل على اعلى عدد من اصوات الطلاب. في الانتخابات الاخيرة، توزع 15 مقعداً بين قوى 14 و8 آذار. اما المقاعد الثلاثة الباقية ومنها مقعد نائب الرئيس، فانتزعها «النادي العلماني» الناشئ اواخر العام 2008. وفيما يعتبر هذا انجازاً بالنسبة الى حركة غير حزبية، علمانية، حديثة النشوء نسبياً ترتكز مطالبها على «العلمانية، العدالة الاجتماعية ومطالب الطلاب» في ظل الأوضاع الراهنة، إلا انه يبقى، وباعتراف ناشطي النادي انفسهم، قاصراً عن «استلام شعلة الذين سبقونا»، وفق رئيس النادي العلماني جان قصير (سنة ثالثة علوم سياسية). يدرك علمانيو الجامعة اليوم انهم يرثون تاريخاً مطلبياً بنته اكثر من مجموعة يسارية مطلبية سبقتهم ومنها ما لا يزال فاعلاً، و «صيتاً قد لا نستحقه»، وفق قصير. يدرك النادي العلماني اليوم ان كل ما يستطيعه هو «معارك صغيرة كتلك المتعلقة بمنع زيادة الأقساط والشفافية في صرف الأموال في الجامعة». اليسار وانقساماته وقد أفسح الوضع العام في التسعينات المجال لليسار للتأثير في الساحة الطلابية. فنشطت في تسعينات القرن الماضي مجموعات يسارية متعددة من «بلا حدود» في الأميركية، الى «طانيوس شاهين» في كلية الحقوق في الجامعة اليسوعية، ومجموعة «بابلو نيرودا» في الجامعة اللبنانية الأميركية. «لكن الحزب الشيوعي الذي كان نواة معظمها فشل بالتعامل معها لضمان استمراريتها»، يشير الناشط في اللبنانية الأميركية. تشهد تجربة المجموعات اليسارية بين ال95 وال2005 في كلية الحقوق في الجامعة اليسوعية وفق الصحافي والكاتب وسام سعادة الذي كان ناشطاً في مختلف مراحلها، على ازمات الحركات اليسارية المطلبية في الجامعات. فالحراك بمجمله كان مرتبطاً بالرغبة في بنيان حزب يساري جديد، فنشأ صراع بين خيارات متعددة. كان من يعتبر الحزب الشيوعي ممثلاً له ومن يريد الانشقاق عنه، وهؤلاء، «ومنهم انا، يتحملون مسؤولية تدمير الحراك الطلابي وعدم تناقل المعارف والإرث»، يشير سعادة. في البداية كان تنظيم «طانيوس شاهين» في ال1997، ثم انشقت عنه مجموعة لتؤسس تنظيماً طلابياً مختلفاً، «شبيبة فرج الله الحلو»، بلهجة اعلى وأكثر راديكالية بين ال99 وال2001. وعلى رغم إجماع الناشطين على كون ال2005 من اصعب السنوات على المجموعات اليسارية العلمانية لصعوبة ايجاد خطاب موّحد وإنتاج بديل خارج ثنائية 14 و8 آذار، إلا ان بداية الأفول، بالنسبة الى سعادة، حصلت بين ال2000 وال2004 حين «اردنا الانشقاق النهائي عن الحزب الشيوعي، فقررنا ان نحلّ كل المجموعات او ندمجها معنا لتتأسس بعد ذلك حركة «اليسار الديموقراطي» في ظل احتدام النقاش بين اليساريين العلمانيين حول الوصاية السورية. انعكست المعارضات داخل الحزب الشيوعي على الساحة الطلابية بحيث استغل الطلاب المعارضين وجودهم في الجامعة لخلق خلايا طلابية معارضة للضغط على القيادة. وعلى رغم انتاج هذه الدينامية لنشاط مطلبي غني، إلا ان فاعليه لم يراكموا خبراتهم لنقلها الى الأجيال القادمة، فلم تتعلم من أخطائها». الاعتراف باندثار المجموعات اليسارية العلمانية في الجامعة اليسوعية ترافق مع إقرار بوجود ذاكرة جماعية في «الأميركية» حيث يسجل للمجموعات السياسية المستقلة ومن اهمها «بلا حدود» الإصرار على مراكمة العمل وخوض معارك طلابية مبنية على الأبحاث والأرقام. «كنا نقدم أطروحات لمشاريع في الحكومة من خمس وست صفحات نشرح فيها اسباب طرحنا للمشروع»، يشرح احد الأعضاء القدامى هراتش هاسرجيان. تواجدت «بلا حدود» في الحكومة الطلابية في سنوات 97 -2003، وكانت مجموعة يسارية علمانية مستقلة منظمة بمانيفستو ونظام داخلي، وصلت كسواها من الحركات اليسارية الى حائط مسدود في ال2005 بمواجهة ثنائية 14 و8 آذار واستنفار الأحزاب الطائفية بعد سنوات من ضبط ايقاع مارسته السلطة السورية في لبنان. واجهت «بلا حدود» صعوبة في ابتداع ورقة سياسية وخطاب موحد لليساريين يوم انقسموا بين الائتلافين – الحزب الشيوعي الى جانب 8 آذار و «اليسار الديموقراطي» الى جانب 14 في ال2005. بعد حرب تموز 2006، انحسر المتنفس العلماني مع تخرج معظم كوادر «الشعب»، وتراجع شعبية خطابهم، والانشقاقات المتعددة في صفوف الشيوعيين واستحواذ الأحزاب الطائفية على كثر منهم. «بعد حرب تموز، كانت الناس كارهة لبعضها وسادت حالة طائفية مقرفة»، يفيد العضو المؤسس في «النادي العلماني» علي نورالدين. «قررنا على اثر7 أيار تشكيل النادي العلماني. وكانت صبغتنا واضحة على رغم ضبابية الخلفية الفكرية والسياسية». تعاون النادي مع «بلا حدود» ثم ما لبث ان ابتعد عنها في ال2011. وعلى رغم المآخذ من «بلا حدود» وسواها على «النادي العلماني» باعتباره نادياً يبقى تحت سلطة إدارة الجامعة، غير جدّي ولا منظم ولا يملك اجندة سياسية واضحة ويعتمد الشعبوية، يبقى اكثر المجموعات المستقلة العلمانية في الجامعة الأميركية تنوعاً لقدرته على الاستقطاب من مختلف الخلفيات، وأكثرها فاعلية في لبنان اليوم. لا يعود الفضل بذلك الى قيادة النادي بالضرورة، انما لمجموعة من العوامل الأخرى اهمها الكوادر السياسية التي خرّجتها الجامعة والأرضية التي خلقتها المجموعات السابقة مثل «حركة الشعب» التي اخذ عليها شعبويتها و «بلا حدود» التي اخذ عليها ضيق طابها وفشله في الوصول الى شرائح الطلاب المتنوعة وتنظيمها المائل الى البيروقراطية والشخصانية التي حكمت الى حد بعيد عمل عدد من اعضائها. العامل الثاني الذي لا يقل اهمية هو موقع، طبيعة وتاريخ الجامعة. «اللبنانية» والهيمنة إدارة الجامعة، وإن كان من غير الدقيق وصفها بالمتعاونة، فهي على الأقل ليست متواطئة مع الأحزاب الطائفية كما هي الحال في كليات الجامعة اللبنانية. والإدارة المتواطئة ليست الا احد معوقات العمل المطلبي العلماني في الجامعة اللبنانية حيث منعت الانتخابات في ال2008. يتحدث المسؤول الطلابي السابق والناشط في اتحاد الشباب الديموقراطي في الفرع الأول لكلية الفنون في الجامعة اللبنانية في الحدث علي بصل عن جو سياسي فاعل في الجامعة بين 2003 و2005. «يومها كان للعمل الطلابي حيّز. اما اليوم فلا جو سياسياً مشجعاً ولا حافز للطلاب ليعنوا بالسياسة. فحتى الأحزاب لا دافع لها او هم لتقدم اي طرح». وانقسام الجامعة اللبنانية الى كليات وضع العمل السياسي في كل كلية تحت سيطرة مدير كل كلية. ويشير بصل في هذا السياق الى «تواطؤ الإدارة مع الأحزاب الطائفية المهيمنة وتغطيتها لبلطجية بعضها «لأنها من التركيبة نفسها». حتى في المطالب الطلابية البحتة، مثل ادراج مادة رسم النماذج العارية في مقرر كلية الفنون، بدّت الإدارة ارادة الأحزاب الطائفية (حركة امل و «حزب الله») ومنعت إدراجها، كما انها ألغت نتائج آخر انتخابات لمجلس الفرع (2007) لعدم حصول حركة سياسية على مقاعد كافية لانتخاب رئيس ونائب للرئيس. في التسعينات، عكس العمل الطلابي الواقع الاجتماعي-السياسي: مجتمع خارج من حرب، لا يرغب في تكرارها ومستعد لنوع آخر من الخطاب، وجود سياسي وعسكري سوري ضابط لإيقاع الطوائف، ما أفسح المجال امام الحراك اليساري المطلبي لأن يختبر نفسه وقوته، جيل من الشباب غير مشتاق للدم يريد ان يناقش في الأفكار السياسية لفهم الواقع، وعدم ارتباط نقاشه بالزعماء السياسيين لكونهم غالباً غائبين حتى ال2005، ورغبة في الانتفاضة على قيادات الأحزاب وتحدّيها. واليوم ايضاً الواقع الطلابي يشبه بيئته: استرجاع الطوائف لسطوتها بعد كشف الغطاء السوري عنها، احكام سيطرتها على المجتمع ومصادر عيش الناس، تخبط اليسار وعجزه التنظيمي والإيديولوجي عن لملمة اطرافه وابتداع خطاب موحد، جيل لم يعش الحرب، ولم يجد نماذج سوى زعماء طوائف فتبعهم واأتج خطاباً مطابقاً في جامعاته (مع بعض الاستثناءات). ذلك بالإضافة الى وضع امني وسياسي يمعن في الانحدار ابتداء من 2005، ما غيّر في أولويات الشباب وفهم الواقع وتغييره الى مواصلة الحياة ضمنه بأقل خسائر ممكنة.