بين نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى تثبيت الحدود بين تركيا وسلطة الانتداب الفرنسي في سورية عام 1923، كانت قطعان الماشية التي يرعاها أكراد (عثمانيون) تقطع سكة حديداً صدئة توقف العمل فيها نهائياً عام 1918 قبل استئنافها لاحقاً بعد حوالى 20 عاماً، كذلك كان الأطفال يلعبون على السكة قرب التجمعات السكنية التي تمر فيها وتقسمها إلى نصفين. لم يكلّف طرفا النزاع – أو الاتفاق - في ذلك الحين نفسيهما بترسيم حدود «عقلانية» تأخذ في الاعتبار العوامل الاقتصادية والاجتماعية والتداعيات السياسية في المستقبل، بل كانت أشبه بقول إقطاعي لزميل آخر في نزاع على الملكية: «حسناً... الأراضي الممتدة من شجرة الجوز غرباً حتى شجرة التين شرقاً هي لك». هكذا، خلقت سكة الحديد الصدئة حدوداً – حتى نصيبين - واقعاً ما زال حديثاً، اسمه «أكراد سورية»، وهذا الواقع – على رغم حداثته - هو قديم قدم سورية الحديثة! جنوب سكة الحديد حال الذهول الكردية استمرت سنوات طويلة للتخلص من صدمة أنه ليس باستطاعتهم الانتقال إلى شمال السكّة من دون أوراق رسمية، فأطلق عليهم أقرباؤهم في كردستان تركيا اسم «kurdê bixetê»، أي «أكراد ما وراء أو جنوب الخط الحديد»، وهذا هو الاسم الشعبي المتداول حتى الوقت الحالي لأكراد هذا الجزء الكردي الذي عرف في الأدبيات السياسية الكردية ب «كردستان سورية» ثم «جنوب غربي كردستان» وأخيراً «غرب كردستان». لم تكن هذه المنطقة التي تضم حالياً أكثر من نصف محافظة الحسكة وأجزاء من شمال الرقة وحلب تمتلك أي وحدة سياسية، ذلك أن هذه المنطقة – خصوصاً الواقعة في محافظة الحسكة – كانت مناطق نفوذ أكثر منها مناطق استقرار للأكراد الموجودين حالياً في المحافظات الحدودية التركية مع سورية من جهة الشمال، مع استثناءات قليلة. وتعتبر عشيرة كيكان واحدة من أقدم المجموعات المستقرة في هذه المنطقة، وتتوزع الآن في معظم ناحية الدرباسية. لكن البلدة الأخيرة تمثل الأراضي الزراعية للعشيرة وليست منطقة سكن نهائية. في المواسم الزراعية السيئة كانت تنتقل باكراً باتجاه الشمال مع بقاء مجموعات صغيرة فقط فيها. ويورد الرحالة والسياسي البريطاني مارك سايكس في بحثه المضني الذي نشر لاحقاً في كتاب بعنوان: «القبائل الكردية في الإمبراطوية العثمانية»، ما قاله أحد زعماء عشيرة كيكان من أنهم يأتون جنوباً (جنوب جبل قر جه داغ) الممتدة إلى الدرباسية حالياً «لغرض إظهار حقوقهم في الاستقرار في حالة إقامة أخرى للزراعة» في تلك المنطقة. وهذا وعي نادر في تلك الفترة حول التفكير بحقوق العشيرة في منطقة تقيم فيها فصلياً، وهذا أوضح مثال عما يُقصد به هنا ب «مناطق النفوذ» عدا عن الاستقرار. في الإشكال الحالي الذي يظهر في نقاشات بين عرب وأكراد هذه المناطق في أسبقية أي طرف في الإقامة والاستقرار في المنطقة تُغفل هذه النقطة المفصلية المتعلقة بمفهوم «مناطق النفوذ الحية» التي يقيم في غالبيتها الأكراد - لأنها مناطق نفوذهم التقليدية - عدا أجزاء حدودية تم تصنيع عروبتها سياسياً، إلا أن هذا الامتداد الحدودي ليس متواصلاً من عين ديوار في أقصى الشرق إلى عفرين في أقصى الغرب، كما أن هناك وجوداً عربياً كثيفاً داخل بلدات تعتبر مناطق نفوذ كردية تاريخياً، مثل راس العين (سري كانيه) حيث تصل نسبة العرب هناك إلى أكثر من 30 في المئة. وفي كل المناطق التي يتنازع على هويتها العرب والأكراد ثمة نواة مسيحية سريانية كلدانية في قلب هذه المدن والبلدات، بما فيها القامشلي التي تضم نسبة غير قليلة من العرب (تعتبر حالياً عاصمة سياسية مفترضة لغرب كردستان) لكن، لم تعد هناك إمكانية لسيادة مسيحية على أي من المراكز السكانية، حتى تلك التي يشكلون فيه غالبية أو مناصفة مع باقي المكونات كما في تل تمر التي يقاتل للسيطرة عليها كل من قوات كردية وتنظيمات معارضة وجهادية. الاندماج أو الهروب على عكس أكراد العراقوتركيا وإلى حد ما إيران، ما زال التصور السياسي الكردي يبحث عن نفسه في هذا الجزء، ولم تتبلور هوية متماسكة لها خصائصها المحلية والمتمايزة على غرار بقية الأكراد. وعلى رغم مسؤولية الحكومات المتعاقبة في خلق وضع اغترابي لأكراد «جنوب السكّة»، إلا أن طريقة فرز المناطق الكردية الحالية إلى الدولة السورية ما زالت تلعب الدور الأساس في تطلع هؤلاء، إما إلى الاندماج ضمن الدولة السورية بسبب اليأس من تشكيل كيان كردي خاص نتيجة الواقع الجغرافي السلبي، وإما التطلع إلى الأجزاء الأخرى من كردستان بحيث يكون الهاجس هو توحيد كردستان الكبرى للتخلص من عُقدة «الشريط المقطوع في ثلاثة أماكن على امتداد ما يقارب 800 كيلومتر وعمق ضحل لا يتجاوز أحياناً 3 كيلومترات». لذا، لم تنجح حتى اليوم أي حركة كردية - سورية في رسم سياسة غير تابعة لإحدى العواصم الكردية الثلاث: دياربكر وأربيل والسليمانية. هذه التبعية ليست ناتجة من ضعف القيادات، أي أن المشكلة ليست في الأشخاص، إنما المناخ النفسي لنشوء الحركة القومية الكردية في سورية لا تترك خياراً سوى للتفكير ب «مغادرة سورية جغرافياً» في ظل غياب أي طرح وطني تعددي يمكن البناء عليه على أرض الواقع، بصرف النظر عن البيانات التعايشية والاعترافات اللفظية المتبادلة بحقوق «الآخر». وإذ نقول بخياري الاندماج الوطني أو المشروع القومي، فللتشديد على أن الأكراد ليسوا كتلة صلبة غير حيوية. في الوقت نفسه، لا يمكن اعتبار توجهات فردية ليس بيدها قرار التأثير في الفضاءات السياسية الجمعية دليلاً على تنوع الخيارات خارج الإطارين المذكورين (القومي - الوطني) واللذين تجسدهما أحزاب سياسية وتشكيلات عسكرية. زوائد كردستانية غياب الشرط الوطني تاريخياً، إضافة إلى عدم توافر متطلبات «الهوية الكيانية الكردستانية»، وليست العائمة، هي التي جعلت عدد المنخرطين من الكرد السوريين في صفوف حزب العمال الكردستاني خلال التسعينات من القرن الماضي، يقارب عدد المنضمين من أكراد تركيا الذين يتفوقون بعدد السكان بعشرة أضعاف. وعندما قال زعيم هذا الحزب عبدالله أوجلان في منتصف تسعينات القرن الماضي، إنه يعمل على إعادة الأكراد في سورية إلى موطنهم الأصلي في الشمال، لم تلقَ هذه العبارة الخطيرة أي استنكار شعبي خارج الأطر الحزبية المنافسة. هذا النزوع نحو الهروب ليس مجرد مؤامرة من النظام استغل فيها حاجة أوجلان في ذلك الوقت، بل على رغم بساطة أحد مستويات الحاضنة الشعبية للعمال الكردستاني، إلا أنها كانت تدرك ربما أكثر من السياسيين أن لا طاقة لهم بخوض نضال يؤثر في الدولة السورية بسبب مجموع العوامل التي سبق ذكرها، ف «غرب كردستان» أقرب إلى أن يكون «زوائد كردستانية». وإذ قد يحاجج بعضهم في نفي غربة القوميين الأكراد – أو تغريبهم سلطوياً - بالوجود الكردي «الثقيل» سكانياً في مدن رئيسة كحلب ودمشق، فإن هذا الوجود أصبح أساسه اقتصادي معيشي في غالبيته، وإن بدأت بدوافع سياسية كما في حال الكثير من أكراد دمشق المنفيين من السلطنة العثمانية. ويمكن بسهولة أن يصرّح كردي من بين بضعة آخرين في مدينة حلب، أنه يتطلع إلى دولة كردية موحّدة، على رغم أن كل متطلبات الحياة الاقتصادية لديه مرتبطة بحلب. وإذا كان على السياسة أن تصوغ حلولاً وفقاً لتمحور الناس حول مصالح اقتصادية تضمن استمرارية هذا المجتمع، فإن هذه البدهية غير متوافرة في «غرب كردستان»، ذلك أن المصطلح نفسه يتجاوز قدرة المجتمع على تجسيده بهذا المعطى، حتى إنه يتم تقديمه كأنه «اكتشاف أثري» – مطلق - يتم إحياؤه بعد تغييب قسري. يضاف إلى صعوبات تشكُل فضاء اجتماعي سياسي كردي في سورية مقابل تصاعد نزعة التطلع نحو دياربكر كعاصمة يتم ترديدها والتغزل بها مراراً في الأغنيات، أن مدينة ماردين (في تركيا) بقراها ونواحيها هي أقرب ثقافياً واجتماعياً لابن منطقة الجزيرة من عفرين الواقعة حالياً في أقصى شمال غربي سورية. كذلك الأمر بالنسبة لكوباني التي تعتبر امتداداً بشرياً وجغرافياً لمنطقة سروج في ولاية أورفا في «كردستان الشمالية». العودة إلى الحضن الأم أحلام العودة إلى الحضن الأم «كردستان الشمالية» تعرضت إلى «نكزة» في الآونة الأخير، وذلك كأحد نتائج الخطر الوجودي الذي يحيط بالأكراد السوريين في النطاق الجغرافي الكردستاني من جهة مطامع تنظيم «القاعدة» وأطراف معارضة في المنطقة، كذلك تواصل تركيا مشروعها في إقامة جدار عازل على الحدود السورية - التركية (بين نصيبين والقامشلي)، أي بين غرب كردستان وشمالها، الأمر الذي أدى إلى احتجاجات قادتها رئيسة بلدية نصيبين، إضافة إلى حملات إعلامية من جانب أكراد سوريين. لم يأتِ هذا الحنين إلى الشمال من فراغ، فكما أسلفنا، الهجمات الشرسة التي تتعرض لها المناطق الكردية من جانب قوى محسوبة على المعارضة، غير «داعش» و «جبهة النصرة»، لا تترك لهم مجالاً في أن تكون سورية خياراً نهائياً غير قابل ل «الاجتهاد» و «القياس»، على الأقل لدفع الخصم إلى إعادة التفكير في نزعته «الإلغائية». وكما يستعين عرب هذه المنطقة بالتنظيمات الجهادية لكسر أي قيادة كردية للمنطقة، فإن الطرف الكردي أيضاً يلتف حول حزب الاتحاد الديموقراطي بقواه المسلحة رداً على ذلك. تخضع صيغة الحل السياسية التي تسود بين الشريحة الأوسع من أكراد سورية إلى درجة استجابة الطرف الآخر (السلطة) إلى مطالبهم. وكان الاتجاه الغالب في بدايات الثورة السورية ذا اتجاه وطني يقبل بحل ضمن «سورية ديموقراطية تعددية»، سورية عابرة لمفهوم العروبة الطاردة التي ترى في الأكراد غرباء يقيمون على هذه الأرض، وليس بسبب عدم توافر الوقت والظرف لدى فرنساوتركيا الكمالية لترسيم حدود غير التي حددتها سكة حديد اسطنبول - بغداد. غير أنه منذ إطلالة المعارض هيثم المالح في مؤتمر أنطاليا ومبادرته الكارثية – وطنياً - في إعادة ضخ «العروبة الطاردة» في الثورة السورية، وجدت خيبة الأمل الكردية دافعاً للبحث عن خيار آخر التقطه حزب الاتحاد الديموقراطي وسار به وصولاً إلى طرح وتنفيذ مشروع «الإدارة المدنية الانتقالية في غرب كردستان» بالقوة، فيما تعرضت التيارات الكردية التي كانت تربط الحل بالتوافق المباشر مع أطراف المعارضة إلى انتكاسة قد لا تنتعش مجدداً، إلا في حال انهيار مشروع «غرب كردستان». وهذا الأخير يواجه تناقضات، فمن جهة تؤكد الوثائق المتعلقة بها الارتباط النهائي بسورية، فالإدارة الذاتية هي مشروع محلي سوري يخص الأكراد. وهذه النبرة الإطلاقية تتغذى على عداء تاريخي مع الدولة التركية. بما أن أنقرة تتطلع إلى السيطرة على سورية وفق حزب الاتحاد الديموقراطي، والإيعاز للحركات الجهادية بمهاجمة الأكراد السوريين، فلا بد إذاً من سد المنطقة في وجهها مهما كان الثمن. وتبدو سياسة الحزب الكردي هذه غير متوافقة تماماً مع رؤية أوجلان في رسم العلاقة التركية - الكردية في المنطقة. ولهذا الأمر قصة طويلة تأخذنا إلى المحاور السياسية داخل حزب العمال الكردستاني نفسه. التناقض الآخر، أن الحزب يدفع أنصاره إلى الخيار الكردستاني تبدو فيه سورية (الكيان) مسألة منتهية منها، ويظهر المشروع وكأنه يصب في جهود بناء كردستان. مشروع أوجلان المغيّب الخيار الغائب أو المغيّب في كل ما سلف، هو مشروع وضع أسسه العملية عبدالله أوجلان، لكن لم تتم إثارته سياسياً حتى الوقت الحالي، ولأنه لا وجود ل «بروتوكولات كردية»، فإن دفعه إلى العلن قد يثير نقاشاً نقدياً وتقويمياً حوله. ما يمكن استنباطه من مشروع السلام الذي طرحه أوجلان في 21 آذار (مارس) الماضي، هو توليفة حديثة للنموذج العثماني. أي جعل المناطق الكردية الواقعة خارج تركيا وداخلها مجالاً للنفوذ التركي، عبر إدارات كردية محلية. وهذا المشروع، هو أقصى ما قد يتطلع إليه كردي ما زال ينظر إلى سكة الحديد على أنها مهزلة تاريخية. هذا المشروع يعفي أكراد سورية من توحيد غرب كردستان المفكك، لتكون كل منطقة مفتوحة مباشرة على الشمال، وقد تغلق جنوباً (جهة سورية) يوماً ما أو يعاد فتحها بصيغة علاقات حكم جديدة مع دمشق. في ظل غياب مشروع وطني سوري، هذا الخيار يبدو أفضل طريقة للتخلص من هاجس الاحتلال الجهادي - العربي - القومي في منطقتهم الضيّقة والممتدة. لكن تعثر مشروع السلام وتوتر العلاقات بين أنقرة والممثل الأيديولوجي لحزب العمال في سورية (الاتحاد الديموقراطي)، يترك هذا التصور قيد الانتظار وليس الإلغاء، ذلك أن واقع الحال في سورية لا يوحي بوجود حل استقراري حتى سنوات مقبلة قد تأخذ وقتاً أطول من العراق الذي ما زال غير مستقر أو آمن. كما أن الشرط السياسي لنجاح «تغيير الاتجاه» هو أن يكون تحت رعاية رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني وإشرافه. إذ إن وجهة تدفق النفط تذيب العداوات، هكذا يُفترض، وهذا ما يظهر من تطور مسار العلاقات بين إقليم كردستان وتركيا، ولدى أكراد سورية نفط لا طريق له إلا بأن يصب في الأنبوب الكردستاني الذين سيتدفق عبر تركيا. لكن الحال لن تكون كذلك إذا كان هناك طرف كردستاني سيعادي ويصاحب لحساب غيره.