مع تصاعد إيقاع الانتفاضة السوريّة، تصاعدت نبرة المواقف الدوليّة والعربيّة. كانت هذه المواقف، في بدايتها، تطالب النظام بتغيير سلوكه والتوجّه نحو التعددية والانفتاح والإصلاح التدريجي الجدّي والحقيقي. ومع استهتار النظام بهذه المناشدات والمطالب، وإصراره على الحل الأمني في معالجة أزمته، وسعيه لسحق حركة الاحتجاج السلميّة بالحديد والنار، بدأت المواقف الدوليّة تنحو نحو المزيد من الضغوط والعقوبات، وفرض المزيد من العزلة عليه، قانونيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً، بالتزامن مع دعوته الى التنحّي والرحيل. وفي سياق هذه المواقف الإقليميّة والدوليّة، برز التحوّل الدراماتيكي في الموقف التركي من النظام السوري، لجهة الانعطاف الحادّ من التعاون والتنسيق والانسجام التام، على كافّة الأصعدة، (تشكيل مجلس التعاون الاستراتيجي بين البلدين الجارين، وإلغاء تأشيرة الدخول بينهما)، الى الخصام وحرب التصريحات المتبادلة، وتبنّي أنقرة ودعمها لسلسلة من الاجتماعات والمؤتمرات للمعارضة السورية، بخاصّة منها ذات التوجّه الإسلامي. وقد تطوّرت هذه الانعطافة التركيّة من نظام الحكم في سورية، لتصل الى درجة التمهيد للصدام العسكري، والتدخّل المباشر. وهذا ما باتت مؤشراته تلوح في الأفق، عبر استدعاء هيئة الأركان التركيّة لمجموعة كبيرة من الضبّاط الكبار المتقاعدين الى الخدمة، وتوزيعهم على الحدود السوريّة _ التركيّة، فضلاً عن زيادة الحشود في هذه الأماكن، بالإضافة الى محاولة خلق المناخ الملائم لدى الرأي العام التركي، بضرورة اتخاذ تدابير عسكريّة تركيّة في سورية، بحجّة المحافظة على أمن واستقرار تركيا. ومن ذلك، تسريب التقارير الاستخباريّة الى الإعلام التركي، والقائلة إن حزب العمال الكردستاني، أعاد نشاطه في سورية، تحت أنظار النظام السوري وبدعم منه، ضدّ تركيا. هذا المبرر، كان سيدخِل تركيا وسورية في حالة حرب، نهاية التسعينات، حين كان زعيم العمال الكردستاني عبدالله أوجلان ومعسكراته موجودين في سورية. إلاّ أن أوجلان الآن، في سجن جزيرة إيمرالي، منذ نحو 12 سنة، بعد اختطافه من العاصمة الكينيّة نيروبي في 15/2/1999. الكردستاني والنظام السوري هرب زعيم العمال الكردستاني من تركيا الى سورية في صيف 1979، مستشفّاً نُذُر حدوث انقلاب 12 أيلول (سبتمبر) الدموي عام 1980، بقيادة قائد الجيش وقتئذ، الجنرال كنعان إيفرين. ولم تتشكل لأوجلان وحزبه علاقات مباشرة بالنظام السوري إلاّ بعد الغزو الإسرائيلي للبنان صيف 1982، فتوسّطت فصائل فلسطينيّة بين الكردستاني والسلطات السوريّة لإقامة علاقات مباشرة، تمنح أوجلان حرية التحرّك بين سورية ولبنان، ولمقاتليه المرور من تركيا الى لبنان لتلقّي التدريب العسكري في سهل البقاع، والعودة الى تركيا لممارسة النشاط العسكري. ناهيكم عن السماح للكردستاني بالنشاط الجماهيري بين الكرد والعرب السوريين في كل محافظات سورية. واستفاد النظام السوري من علاقته بالكردستاني الى الحدود القصوى، لجهة استنزاف تركيا سياسيّاً واقتصاديّاً وعسكريّاً، وإشغال الكرد السوريين ب «الثورة الكردستانيّة في تركيا»، وتجاهل مظالمهم وقضيّتهم وحقوقهم في سورية. في الوقت نفسه، استفاد الكردستاني من علاقته مع النظام السوري، وشكّل في سورية قاعدة، قدّمت نحو 5 آلاف مقاتل للكردستاني، فقدوا حياتهم في الصراع العسكري بين الحزب الكردي وتركيا، بالإضافة الى وجود ما يزيد على ألفي مقاتل كردي سوري، حاليّاً، في صفوف العمال الكردستاني، العديد منهم تبوّأوا مناصب قياديّة حساسة عليا، وعلى سبيل الذكر لا الحصر، القائد السابق للجناح العسكري في الحزب، باهوز أردال (أجرى كاتب هذه الأسطر حواراً معه نشرته «الحياة» في خريف 2007)، والقائد الحالي للجناح العسكري، نورالدين صوفي، والقيادي البارز في الهيئة السياسيّة للحزب رستم جودي، بالإضافة الى العشرات من القيادات الميدانيّة العسكريّة والتنظيميّة، هم من الكرد السوريين، كشاهين جيلو، زوهات كوباني، آلدار خليل، زاخو زاغروس، هيفيدار شيار، روناهي أحمد، خبات ديريك. في خريف 1998، كادت الحرب بين سورية وتركيا تندلع، بسبب دعم دمشق للكردستاني وإيواء زعيمه أوجلان، لولا تدخّل الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، وتوسّطه بين أنقرةودمشق لنزع فتيل الأزمة. ووقّع الطرفان، التركي والسوري، اتفاقيّة أضنة الأمنيّة، والتي بموجبها، خرج أوجلان من سورية في 10/10/1998، وتنقّل بين موسكو وأثينا وروما، ريثما تمّ اختطافه، من نيروبي، كما هو معروف. صحيح أن اتفاقيّة أضنة الأمنيّة، وقّعت في عهد الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، إلاّ أنها وجدت تطبيقاتها العمليّة في مكافحة دمشق للعمال الكردستاني في عهد الرئيس الحالي بشّار الأسد. وبموجب تلك الاتفاقيّة، أبدى نظام الأسد، تعاوناً شديداً ولصيقاً في جهود محاربة حزب العمال الكردستاني. وسلّمت دمشق ما يزيد على 100 من عناصره الى السلطات التركية. ناهيكم عن اعتقال ما يزيد على 1200 من قيادات وعناصر حزب الاتحاد الديموقراطي السوري، (الأوجلاني التوجّه)، وزجّهم في السجون. في 20/9/2003، أخذت الكتلة الجماهيريّة للعمال الكردستاني في سورية، لنفسها شكلاً سياسيّاً، في إطار حزب سياسي كردي سوري، يتبنّى الخيار السلمي في سورية، هو حزب الاتحاد الديموقراطي، والذي يعرف اختصاراً بPYD. وهذا الحزب، يتّخذ من طروحات أوجلان ومشاريعه السياسيّة والفكريّة، أساساً في رؤيته لحل القضيّة الكرديّة في سورية، في إطار «سورية ديموقراطيّة علمانيّة تعدديّة، وإدارة ذاتيّة للمناطق الكرديّة شمال وشمال شرقي سورية». تقارير تركيّة سرت في الإعلام التركي، مقالات رأي وتقارير صحافيّة عن عودة العمال الكردستاني الى النشاط في سورية. وأن معاودة الكردستاني لممارسة العنف في تركيا، تأتي بأمر من النظام السوري، نتيجة المواقف التركيّة «الداعمة» للانتفاضة السورية!. في حين رفضت العديد من فصائل المعارضة السورية هذه المعلومات، وشككت في النوايا التركيّة. حيث صرّح سكرتير الحزب اليساري الكردي في سورية محمد موسى (59 سنة)، ل «الحياة» قائلاً: «ما يشاع ويذاع ويكتب من قبل جهات وأوساط، بهذا الصدد، نعتقد أن لا أساس له من الصحة، للاعتبارات التالية: الأول، أن الأعلام الرسمي، المقروء والمرئي للعمال الكردستاني، يؤكد أن التغيير في سورية ضرورة وطنيّة ولا مناص منه أبداً. الثاني: أن حزب الاتحاد الديموقراطي، يعمل ضمن إطار الأحزاب الكردية السورية، الأحد عشر، التي تبنت مبادرة باسم المبادرة الوطنيّة الكرديّة تؤكد إنهاء الاستبداد وإلغاء احتكار السلطة والمادة الثامنة من الدستور، والإقرار بالتداول السلمي للسلطة للانتقال الى بناء دولة مدنية ديموقراطيّة تقرّ بالتعدديّة السياسيّة والقوميّة على أسس الاعتراف بوجود الشعب الكردي في سورية، وإيجاد حل ديموقراطي لقضيته العادلة. أما الاعتبار الثالث: فهو وجود PYD (الاتحاد الديموقراطي) في هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي، والتي تؤكد من خلال وثيقتها السياسيّة الأساسيّة أن التغيير في سورية ضرورة وطنية وتعمل من أجل إنهاء الاستبداد وبناء دولة مدنية ديموقراطية». وحول خلفيّات التقارير التركيّة، قال موسى: «أعتقد أن الهدف من ترويج تلك التقارير، هو الإساءة للشعب الكردي وقضيته العادلة. وتأليب الرأي العام في المنطقة عموماً وفي الداخل السوري في شكل خاص، ضدّ العمال الكردستاني، بهدف دق إسفين بين الحركة الكرديّة في سورية من جانب والحركة الوطنيّة الديموقراطيّة في سورية من جانب آخر، إضافة الى خلق مبررات للقوى المعادية للشعب الكردي، وفي مقدمها النظام التركي، لضرب الحركة الكرديّة وإثارة التناقضات في داخلها». بدروه، نفى نصرالدين إبراهيم (56 سنة)، السكرتير العام للحزب الديموقراطي الكردي في سورية (البارتي)، صحّة تلك التقارير، ووصفها ب «الخاطئة والملفقة»، مؤكداً بأنها لا تتعدّى كونها»عمليّة تشويه للعمال الكردستاني، عبر ربطه بالنظام السوري»، معتبراً حزب الاتحاد الديموقراطي، «حزباً وطنيّاً سوريّاً، ينشط ضمن الحركة الوطنيّة الكرديّة وضمن المعارضة السوريّة، في إطار هيئة التنسيق الوطنية». وشدد إبراهيم على أن «لا حزب الاتحاد الديموقراطي، ولا العمال الكردستاني، مستعدان لعقد صفقات مع النظام السوري، إلاّ إذا وافق هذا النظام على كامل شروط الحركة الوطنيّة الكرديّة والمعارضة الوطنيّة في سورية». وفنّد مسؤول المكتب السياسي في المنظمة الآشوريّة الديموقراطيّة في سورية، غابريل موشه (50 سنة)، تلك التقارير، نافياً أي مظهر من مظاهر تواجد العمال الكردستاني في سورية. مؤكداً أن وجود هذا الحزب على الأراضي السورية، انتهى منذ سنة 1998، «عبر صفقة بين النظامين السوري والتركي، والتوقيع على اتفاقية أضنة الأمنية». وأضاف: «هنالك حزب كردي سوري، هو حزب الاتحاد الديموقراطي، ينشط في شكل سلمي وديموقراطي في سورية. وهو جزء من الحركة الكردية، ومُمَثَّل في هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الديموقراطي في سورية، ويتبنّى في حراكه، أفكار وطروحات عبدالله أوجلان». وأشار موشه أن الهدف من هذه التقارير الاستخبارية التركية التي تداولها الإعلام العربي أيضاً، هو «زيادة التدخّل التركي في الشؤون السوريّة، وتمهيد الأرضيّة للتدخّل العسكري التركي أيضاً، عبر خلق حجج وذرائع ومخاوف أمنيّة تركيّة». الكاتب الكردي السوري في جريدة «البيان» الإماراتيّة، حسين جمو (28 سنة) قال: إذا نظرنا إلى تركيا بعين تركيّة وليست عربيّة أو حتّى كرديّة، نجد أن مسألة العمال الكردستاني، تتصدر اهتمامات سياستها الخارجيّة. والتسليم بهذا الأمر، يستند إلى معطيات عمليّة، أقلّها، ما يتناوله الإعلام التركي هذه الأيام في التسويق لفكرة أن النظام السوري يعود إلى دعم الكردستاني». ويعتقد جمو، أن أنقرة تحاول «ترقيع ثوب مواقفها المخيّبة لتطلعات الشعب السوري. وتحقيق هدفين: الأول، دعوة لنشطاء الاحتجاجات إلى التخفيف من انتقاداتهم لسياسة أردوغان، بدعوى أن تركيا محكومة بمعادلة كرديّة داخلية، يمسك النظام في دمشق بخيطها العسكري. فتبدو أنقرة، مقيّدة الخيارات. وعلى المحتجين تفهّم ذلك. الثاني، لا يكاد يفترق عن سابقه، إلا بالإيحاء أن الزعم بدعم النظام السوري للكردستاني، هو رد على المواقف التركية المؤيدة لانتفاضة الشعب السوري». وأضاف جمو: «إن أخطر الجوانب في الترويج لسيناريو الربط التركي بين الكردستاني والنظام السوري، هو ما ينعكس على المعادلة الداخليّة لحركة الاحتجاجات السورية. فكما توضّح جليّاً خلال ثلاثة مؤتمرات عقدها معارضون سوريون في إسطنبول, تريد أنقرة تصدير نموذجها إلى سورية. ومن الخطأ الاعتقاد أن «النموذج» هو الإسلام المعتدل فقط. ذلك أن أردوغان، لا تهمّه مثل هذه التلوينات، طالما كان من أشدّ أصدقاء القذافي وبشار الأسد. ويمكن تلخيص النموذج المقصود، بعبارة واحدة، وهي: الديموقراطية لدولة اللغة والقوم الواحد، والتهميش للأكراد». كيل التهم أمّا الصحافي والإعلامي الكردي السوري فايق عمر (30 سنة)، هو أيضاً، أدرج التقارير التركيّة في باب «كيل التهم»، وأضاف: «سبق لتركيا أن اتّهمت الكردستاني مراراً بالتعاون مع إسرائيل، علماً أن جميع التقارير الصادرة عن وكالة الاستخبارات التركيّة، وآخرها قبل أيام، تؤكّد أن إسرائيل هي أكثر المتعاونين في حرب تركيا على الكردستاني». وتابع عمر: «الاتّهامات التركيّة للكردستاني بالعودة إلى السّورية، وعلاقته بنظام الأسد، دليل على تزايد الهواجس التّركية من احتمال نيل الكرد لحقوقهم المشروعة عقب سقوط النظام، لا سيما أن هناك تحرّكاً وتعاوناً، أكثر من إيجابي، بين أحزاب الحركة السّياسيّة الكرديّة، وحزب الاتّحاد الدّيموقراطي، ذي النّهج الأوجلاني، وطيف كبير من المعارضة العربيّة السوريّة. وأعتقد أن تركيا ترمي من وراء هذه الاتّهامات، الى دقّ الأسافين بين المعارضة العربيّة والكرديّة السّوريّة، وتأليب الرأي العام العربي في سورية ضد الكرد السوريين ومطالبهم المشروعة، وذلك في شكّل يحول دون أي حلّ للقضيّة الكرديّة في حال سقط النّظام». وبدوره أشار رئيس حزب الاتحاد الديموقراطي، ونائب المنسق العام لهيئة التنسيق الوطنيّة لقوى التغيير الديموقراطي في سورية، صالح محمد، الى أن تركيا تبني سياساتها مع جميع الأطراف المتعاملة معها على أساس إنكار الوجود الكردي. وأضاف: «استطاعت أنقرة، أسر النظام السوري باتفاقيّة أضنة، 1998 واستخدمته، ضد الشعب الكردي على مدى اثني عشر عاماً سواء في شمال أو غرب كردستان. ومارس كل أشكال العنف الوحشي ضد الشعب الكردي في غرب كردستان، بحيث تسببت هذه السياسة في خلق شرخ لا يمكن ترميمه بين حركة التحرر الكردية والنظام السوري. وبذلك حالت الدولة التركية دون استحواذ الشعب الكردي على مكاسب كبيرة محتملة في السنوات الماضية». وتابع محمد: «الآن، تحاول حكومة أردوغان بشتى الوسائل خلق شرخ بين حركة التحرر الكردية بكافة فصائلها والمعارضة السورية، حتّى لا يحصل الأكراد في غرب كردستان على أيّة مكاسب محتملة من انتصار انتفاضة الشعب السوري. ولهذا تستميت من أجل استضافة مؤتمرات المعارضة واحتضانها، والتدخل في شؤونها ورسم سياساتها وتحالفاتها، بحيث تستثني الأكراد من أيّة مكاسب أو أي اعتراف دستوري بالوجود الكردي في سورية، وتمارس كل أشكال الدعاية والتحريض، وتنشر الدعاية عن علاقة العمال الكردستاني بالنظام السوري، وتربط التصعيد الأخير لحربها على معاقل الكردستاني بتدخلها في الشأن السوري، علماً أن حزب العمال أعلن عن وقف إطلاق النار من طرف واحد مراراً». واختتم محمد حديثه بالقول: «حكومة أردوغان مكلّفة من جانب قوى الهيمنة العالميّة بتمرير سياساتها التي تهدف إلى ترسيخ الإسلام السياسي في الشرق الأوسط، مقابل إطلاق يد أردوغان في كيفيّة حلّ القضيّة الكرديّة في المنطقة. وكل أدوات ووسائل الحلف الأطلسي، بما فيها وسائل الدعاية والإعلام، مسخّرة لتمرير هذه السياسة».