اندلعت الحرب الساخنة في بلدة «سري كانييه» (رأس العين) في أقصى الشمال الشرقي من سورية، في جولة جديدة تبدو أخطر من سابقتها في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. الحقيقة، كما يقال، هي أولى ضحايا أي حرب وكل حرب. كلٌ من أطرافها يروج لأكاذيبه الخاصة، فلا تصلنا إلا غمامات من الإشاعات التي لا يمكن التحقق منها على وجه اليقين. مع ذلك لدينا بعض المرتكزات التي تمكّننا من رسم صورة بالخطوط العريضة لما يحدث هناك. انسحب نظام دمشق من المناطق المتاخمة للحدود مع تركيا، منذ الصيف الماضي، تاركاً السلطة فيها لحليفه القديم – الجديد حزب العمال الكردستاني، بفرعه السوري المسمى «حزب الاتحاد الديموقراطي» (PYD) الذي ينتشر مسلحوه في القرى والبلدات ذات الغالبية الكردية في شمال سورية وشمالها الشرقي. ويسمي حزب صالح مسلم مسلحيه «لجان الحماية الشعبية» إبعاداً لشبهة عضويتهم في الحزب، وتمييزاً لها عن «مؤسسات» أخرى ترتبط به ك «بيوت الشعب» و «مجلس شعب غرب كردستان» ومجالس بلدية محلية ومنظمات شعبية ونسائية وشبابية وثقافية وغيرها، مما يمكن وصفها مجتمعة بأجهزة نظام شمولي، لا يترك أي ميدان للمجتمع المدني وأي هامش فردي خاص. مقابل الطموح الشمولي لحزب أوجلان السوري، اجتمع معظم أحزاب الحركة السياسية الكردية التقليدية تحت مظلة «المجلس الوطني الكردي» الذي ضم في إطاره أيضاً مستقلين قريبين من الخط العام لتلك الأحزاب. حدثت احتكاكات بين مكونات «المجلس» وأتباع أوجلان، عبرت عن صراع بين الطرفين على السلطة والنفوذ في المجتمع الكردي. برعاية مسعود بارزاني وقّع الطرفان ما سمي باتفاق هولير الذي انبثقت منه «هيئة كردية عليا» من المفترض أنها تعبر عن تقاسم السلطة مناصفةً بينهما. لكن أتباع أوجلان لم يلتزموا بموجبات الاتفاق وتابعوا نهجهم المألوف في قمع أي مظهر سياسي مستقل خارج مظلتهم الحزبية. أدى ذلك إلى انقسام غير معلن داخل المجلس بين تيار مهادن لسطوة حزب العمال الكردستاني إلى حد التحالف، وتيار مناهض لها إلى حد الاقتتال. هناك تمايز آخر داخل صفوف الحركة السياسية الكردية، بين تيار ترجح فيه النزعة الوطنية السورية على النزعة القومية الكردستانية، وآخر تشده النزعة الكردستانية نحو زعامة بارزاني. لكن رجحان كفة النزعة الوطنية السورية لدى التيار الأول لم يترجم انخراطاً إيجابياً في الثورة الشعبية السورية، مقابل النزعة الكردستانية لدى الثاني التي بدت أقرب إلى هذا الانخراط. هي مفارقة لا تجد تفسيرها إلا في الانعزالية الكردية التي تنظر إلى ما يدور في سورية نظرة اللبناني أو العراقي أو حتى التركي. ف «التيار السوري» يعبر عن سوريته بالوقوف على مسافة واحدة من نظام دمشق ومعارضيه، وكان قبل الثورة أقرب دائماً إلى الأول. أما «التيار الكردستاني» فقربه من الثورة لا يعني انخراطه العملي فيها أو في أطر المعارضة السياسية السورية إلا بمقدار ما يخدم هذا وذاك التطلعات الكردية الخاصة التي يشكل مطلب الكيان الفيديرالي أقصى تجلياتها. نفهم من اتهامات الأطراف الكردية أن مجموعات مسلحة من «الجيش السوري الحر» هاجمت بلدة رأس العين ل «تحريرها» من مسلحي حزب العمال الكردستاني المعززين بمسلحي أحزاب كردية أخرى، ذكر منها الحزب التقدمي الكردي بزعامة حميد حاج درويش الذي يعد خير معبّر عن «التيار السوري» المشار إليه. وقيل إن بعض تلك المجموعات المسلحة «العربية» يتبع الشيخ نواف البشير رئيس عشيرة البكارة، العضو القيادي في المجلس الوطني السوري. لكن البروباغندا الكردية تثير كثيراً من الصخب حول إسلامية تلك المجموعات وسلفيتها، في تعبير عن عداء كردي عصبوي شائع للمظاهر الإسلامية في الثورة السورية، وكنوع من الاستثمار السهل في نزعة علمانية شائعة ضد تلك المظاهر. وهذه ظاهرة تستحق التأمل: النفور الكردي التقليدي من عروبة العرب يتخفى اليوم تحت غطاء نفور «مشروع» من إسلامية العرب وسلفيتهم. طالما ساوى المتكلمون الكرد النمطيون بين العرب في السلطة والعرب في المعارضة، لأنهم «جميعاً ضد تطلعات الكرد القومية». وكانت الأحزاب الكردية التقليدية تستثمر في هذه الفكرة لتبرر لنفسها مهادنتها نظام الأسد بعهديه، فتدفع بها خطوة أخرى إلى أمام لتقول: المعارضة أسوأ من النظام. الحق أن المعارضة السورية فشلت في احتواء المطالب المحقة للمكون الوطني الكردي، فكان تعاطيها مع المسألة الكردية يتراوح بين الإهمال التام والترحيل إلى ما بعد تغيير النظام، والعداء الشوفيني الصريح. وإذا كانت انتفاضة الكرد في 2004 بدلت قليلاً في هذه اللوحة، فثورة الشعب السوري في 2011 كانت فرصة جدية لتغيير جذري في منظور المعارضة للمسألة الكردية، لم تُستثمر. ففي حين رأينا التظاهرات الشعبية في المدن السورية ترفع علم كردستان، وتعتبر القائد الكردي مشعل التمو شهيداً بارزاً من شهداء الثورة السورية، كان المجلس الوطني السوري يفشل المرة تلو مرة في إرضاء الحركة السياسية الكردية وضمها إلى صفوفه. صحيح أن المجلس الوطني الكردي يتحمل قسطه من المسؤولية في ذلك، لكن مسؤولية الممثل السياسي ل «الأكثرية» (العربية) تبقى أكبر. اليوم، بمقدار ما يدفع المجلس الوطني الكردي ثمن نأيه بالنفس عن الصراع الدائر في سورية ومهادنته المشينة لمسلحي حزب أوجلان في سورية، بمقدار ما يدفع المجلس الوطني السوري (وبعده الائتلاف) ثمن نظرتهما التبسيطية إلى المسألة الكردية ومسألة الأقليات بصورة أعم. اليوم يدخل مسلحو «الجيش الحر» مدينة رأس العين الخالية من وجود النظام، ويدكّون مساكن المدنيين بمدافع الدبابات، كما يفعل النظام في سائر أنحاء سورية، بذريعة واهية هي «تحريرها» من مسلحي «الكردستاني». لا المجلس الوطني ولا الائتلاف رفعا الصوت ضد هذه الجريمة الموصوفة بحق وحدة النسيج الوطني السوري. في المقابل انقسمت الحركة السياسية الكردية بين تيار التحق عسكرياً بجماعة أوجلان، وآخر متحالف مع غزاة المدينة من «الجيش الحر» كما تفيدنا أخبار غير أكيدة. فإذا أضفنا تشكيل النظام ما سمّاه «جيش الدفاع الوطني» الذي ليس غير مأسسة للتشبيح الطائفي، كنا أمام صاعق قنبلة تهدد بتفكيك الكيان السوري.