كم يُشبه «حزب الله» في مدينة صيدا حركة «فتح» في عهدها الصيداوي في الثمانينات. مستويات متفاوتة من النفوذ، وطغيان على العلاقات الأهلية، وتقاطعات لا تُفكّ ألغازها بالمعايير المعهودة. العلاقات الشارعية تحكم إدارة الشأن اليومي، فيما تسقط السياسة في تبادلات مافيوية. أنه فخ صيدا، عينه ذلك الذي سقطت فيه حركة «فتح» في مرحلة دولتها. علاقات زبائنية توهمت «فتح»، ويتوهم «حزب الله» اليوم، أن من الممكن استثمارها سياسياً. إنها صيدا، عقدة علاقات شديدة التعقيد، من مسها بنفوذه مسته بفوضاها. فها هي دوائر سلطة الحزب تبدأ من نواة الحزبيين الصلبة وتتسع لتشمل الأذرع الأهلية الصيداوية الفلسطينية، أو ما يسمى «سرايا المقاومة»، فيما تُمثل الحلقة الثالثة الحلفاء الصيداويين، كالتنظيم الشعبي الناصري وأحزاب أخرى صغيرة، وبعض الانشقاقات عن الجماعة الإسلامية (قوات الفجر)، ناهيك عن مجموعات فلسطينية في هوامش مخيم عين الحلوة. هذا النفوذ، يُقابله أهلياً صوت المدينة الخافت الذي مثلته صناديق الاقتراع في الانتخابات الأخيرة، حين اقترعت صيدا على نحو حاسم لتيار المستقبل الذي يُمثل صيداوية سابقة على نفوذ آل الحريري. إنه الشعور المديني التقليدي الذي يُخاطب في الصيداوي مصالحه المُحصنة بسنية تقليدية لا تقطع ولا تُغامر. لكنها تقليدية تغذت في العقد الأخير على ضائقة السنّة اللبنانيين، فأخرجت أحمد الأسير من ثنايا ضائقتها، فكان أشبه بصوت مرتفع لا يجيد صاحبه غير الصراخ. فالأسير لم يكن سلفياً، على ما قال وقال شيوخ السلفية أيضاً، وهو ليس إخوانياً، وليس شيخاً مكرساً، ولا تربطه بعلاقات المشيخة صلة. استجمع الرجل صورته من أكثر من مرآة. كانت لحيته سلفية ولهجته صيداوية وجبّته غير مستقرة على جسمه، تارة يخلعها ليقود دراجته الهوائية، وتارة يلبسها ليشتم «حزب الله»، وفي أحيان كثيرة يتخفف من قيافة الشيخ كلها مُبقياً على لحية هائلة غير مُنضبطة. تشهد المدينة اليوم قتالاً بين مستويي النفوذ هذين. وهي لطالما شهدت مثله في سنوات المحنة اللبنانية، وأيضاً لطالما انتصر النفوذ الأمني على العلاقات الأهلية من دون أن ينجح في تطويعها. لا بل إن الانتصار المتوهم ل «فتح» سابقاً ول «حزب الله» اليوم على المدينة وأهلها، والذي استعان ويستعين بعلاقاته الزبائنية، عاد واستسلم لمنطقه الداخلي وسلّم لأمراء الشوارع مهمة صياغة نفوذه وسياسته على ما يحلو لهم. ف «حزب الله» مد نفوذه متوهماً أنه يُنشئ خاصرة سياسية وأمنية في المدينة، لكن الحزب اليوم هو خاصرة هذا النفوذ وليس العكس، فحين تُقدم «سراياه» السنية على أعمال انتقامية في أعقاب هجوم الجيش على مقر الأسير، يصيب الارتدادُ الحزبَ لا محالة. و»السرايا» ستبحث، لا محالة، بعد أن يذوي نفوذ الحزب، عن أب آخر، وستجده. إنها السلطة حين تتوهم أنها أقوى من العلاقات الأهلية، وهو زهوها بانتصارات صغيرة لن تتمكن من تتويجها بغير تهرّؤ يشبه الانتحار. وصيدا لشدة ما كررت هذه المعادلة، صارت حوادثها وحروبها الصغرى نسخاً يشعر الصيداوي بأنها قدر. قبل أشهر قليلة اشتبكت مجموعة من «السرايا» ومجموعة من التنظيم الناصري، وسقط للأخير قتيل، فاستعاد الصيداويون اشتباكاً بين مجموعة لبنانية تابعة لحركة «فتح» ومجموعة من التنظيم الناصري يقودها رجل شهير يُدعى «الكابتن حبلي». وفي أثناء الاشتباك تمت سرقة سوق الصاغة، وبعد أشهر قليلة اجتاحت إسرائيل لبنان وظهر قائدا المجموعتين المشتبكتين مجدداً ولكنْ بصفتهما قائدين في ميليشيا «الحرس الوطني» التي أنشأتها إسرائيل. لقد كان ذلك جزءاً من سطوٍ على العلاقات الأهلية في المدينة. واليوم يبدو أن نفوذ «حزب الله» نسخة غير منقحة عن هذا السطو، والمسافة بين نفوذ الحزب ومزاج المدينة واضح ةجداً. انه الفارق الذي أحدثته صناديق الاقتراع في الانتخابات، والذي يبدو مذهلاً أن «حزب الله» لا يقيم له وزناً في سعيه الى نشر نفوذه في صيدا. محاولة تفسير غياب هذه المعادلة عن ممارسة الحزب، تدفع الى الاعتقاد بأن الأخير فقد سيطرته على حدود نفوذه، فهو من جهة عاجز عن ضبط شُعبه الأمنية والشارعية، ومن جهة أخرى عاجز عن التخلي عنها. مد النفوذ لا يمكن أن يتم من دون فوضى، والأخيرة تعود لترتد على مستقبل الحزب ومستقبل نواته الطائفية الصلبة. وكَم دفع السكان الفلسطينيون أثماناً نتيجة ما اقترفته فتح»هم» في سنوات دولتها. الغريب أن «حزب الله» الذي قرر أن الجيش اللبناني هو مَن سيتولى مهمة القضاء على أحمد الأسير، في خطوة كانت لتبدو حكيمة لو انه تمكن من ضبط شُعبه الأمنية، عجز في الوقت ذاته عن الانكفاء في معركة كان تجنبها ليعفيه من أثمان كثيرة. ليس القتال مع الجيش وحده ما دفع إلى هذا الاستنتاج، إنما أيضاً عراضات الانتصار التي تولّتها مجموعات يُمولها في صيدا، لا بل الانتشار الكثيف لعناصر حركة «أمل» في شوارعها، مع ما تُمثله من إرث صدامي مع سكان المدينة. وما يُعزز الاعتقاد بفقدان الحزب السيطرة على حدود نفوذه، وما يدفع أيضاً إلى الاعتقاد بأن الاهتراء ربما وصل إلى نواته الحزبية، تلك الركاكة الواضحة في مساعيه لارتداء أقنعة صيداوية. فالصحافيون وصلوا هذه المرة إلى تلك الشقق «السكنية» التي كان يقيم فيها محازبوه المباشرون في عبرا، وصوّروا أجهزة اتصال فيها، وأطلوا من شرفاتها على تقاطعات الطرق التي تُشرف عليها من دون أن تردعهم آلة الرقابة التي يعهدها اللبنانيون لديه. أما «العائلات» التي أسكنها الحزب في هذه المقار، فظهر جلياً في صور الصحافيين كم أنها ليست عائلات!. إنه فخ صيدا، «بوابة الجنوب» الشيعي، ومدينة العدد الأكبر من السكان الفلسطينيين في لبنان، وخاصرة مدينة جزين المسيحية، والتي لطالما توهمت السلطات أنها بإمساكها بها إنما تُمسك بعقدة هذه العلاقات الصعبة. الصيداويون عاجزون أيضاً عن تولي هذه المهمة، ولهذا تعيش المدينة في دوامة من تعاقب السلطات على نحو خلدوني، ولكنْ بوتيرة أسرع مما اعتقده صاحب «المُقدمة».