يُشكّل «مهرجان طنجة للفيلم القصير المتوسطي» فرصةً نادرةً لتظهير حوض المتوسط، باعتباره بيئةً ثقافيةً، وفضاءً معرفياً، تلتقي في إطاره مُعطيات ثقافية عربية، آسيوية وأفريقية الامتداد، ومُعطيات غير عربية، أوروبية شرقية وغربية، مع تمازج آسيوي - أوروبي على البرّ التركي، تتيحه هذه المرة مجموعة واسعة من الأفلام القصيرة التي صنعها شباب، في مُقتبل العمر، في غالبيتهم. لن يتوانى غير مخرج شاب منهم، عن التشديد على أن لفت النظر إلى حوض المتوسط على مقدار من النباهة التي فاتت كثراً، بخاصة مع حال راسخة من إدارة ظهر، لا تكاد تنظر إلى البحر المتوسط، إلا على إيقاع طبول الحرب، التي تتجلّى بين حين وآخر بارجات وحاملات طائرات، آتية من البعيد، كاشفةً عمق التناقضات التي تتحكّم بمصائر ومصالح من يتقاسمون الماء والهواء، وربما الدماء، على حدّ تعبير أحد الأصدقاء. تأخذنا السينما، في طنجة، إلى حوض المتوسط. تضعه في دائرة الضوء، وبؤرة الاهتمام، مانحةً الفرصة لمزيد من التعارف بين شعوب وبلدان وثقافات ومعارف وتواريخ وحضارات ولغات وهموم وآمال وآلام ومطامح. هذا الذي قصرت عن المبادرة إليه، وتولّيه غالبية الفضائيات التي تطلقها بلدان المتوسط كلها، منكفئة على ذاتها، ومحليتها، وخصوصيتها، ولا تكاد تتبادل حضور الآخر، الجار والشريك، وربما الشقيق، إلا بما تحفل به نشرات الأخبار، ومآسي قوارب الموت. ننتبه إلى أنه على رغم عشرات، إن لم نقل مئات، المحطات التلفزيونية، العربية وغير العربية، التي تبثّها بلدان حوض المتوسط، من النادر جداً أن نجد منها اهتماماً حقيقياً، جاداً، ورصيناً، بفكرة حوض المتوسط ذاتها، تماماً إلى درجة لا يمكن أحداً الادعاء بأن ثمة مساهمة مُقدّرة ساهم بها البثّ االتلفزيوني في التقارب، أو التعارف، في ما بين أهل هذه المنطقة، الذين كانت من أقدارهم، في غير حقبة تاريخية مديدة، وعبر عصور متتالية، أن تداخلوا وتمازجوا وتصاهروا، بعد أشواط صراعات وغزو متبادل. وبمقدار ما يجمع التاريخ والجغرافيا بين ضفاف المتوسط، فإن حال التجاهل المتبادل، ما كان له إلا أن يوسّع الفجوة الحضارية والثقافية في ما بينها، بما يفيض عن المسافات القصيرة المُتقاربة في الواقع، الواسعة المُتباعدة في الآمال والأحلام، وفي شكل يقترب من القطيعة، في عالم من المُنتظر أن تُساهم ثقافة الصورة في ردم الفجوات، والجسْر بين الأطراف. لا يقع المشاهد، اليوم، على برنامج تلفزيوني، يهتمّ بالتأسيس المعرفي والتقريب ما بين الثقافات المتوسطية، المتشابكة في الإرث والأصول والعراقة، أو يفتح أفقاً مستقبلياً مُستلهماً شمس فينيقيا، وأبجدية أوغاريت، وفتوة قرطاجة، وفلسفة الإغريق، وبأس الرومان، وأصالة الفراعنة، وفردوس الأندلس. يتلكأ التلفزيون في هذه المهمة، ويتقاعس. فتُبادر السينما من طنجة الواقفة على باب حوض المتوسط شاهدةً مُترقّبة.