في كلمته أمام مؤتمر الاتحاد البرلماني الدولي، الذي عُقِد في جنيف، حذر رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، من المخطط الهادف إلى تمزيق وتقسيم العديد من الدول العربية. وطالب الحضور بضرورة اتخاذ خطوة مسؤولة وحازمة تمنع تحقيق هذا المشروع المريب الذي يشكل خطراً حقيقياً أسوأ من مشروع سايكس-بيكو. ومن المؤكد أن الاستياء العارم الذي عبّر عنه الرئيس بري لم يكن سوى مؤشر بارز يعكس بشاعة الحروب الأهلية التي أفرزها «الربيع العربي.» ومع أنه لم يُشِر إلى المرجع الذي استقى منه الفكرة، إلا أن الرسم الذي نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» كان المصدر الذي اعتمده في تحذيره وقلقه. وذكرت الصحيفة أن الأحداث الدامية ستؤدي إلى متغيرات ديموغرافية، وأن هناك خمس دول عربية مرشحة لأن تتقسم إلى 14 دولة. وقالت أيضاً إن الحرب الطائفية-العنصرية في سورية ستقود في نهاية التصدع إلى تفكيك الوحدة الجغرافية المهيأة لإنتاج ثلاث دول متلاصقة: الدولة العلوية التي تمتد إلى شاطئ اللاذقية وطرطوس كملاذ آمن لطائفة لا تمثل أكثر من عشرة في المئة، ولكنها استطاعت الهيمنة على السلطة مدة نصف قرن بفضل الرئيسين حافظ الأسد ونجله بشّار. وتمتد إلى جوارها دولة الأكثرية السنية المتاخمة للعراق. وقد منحتها الصحيفة اسماً مركباً «سنيستان». ثم دويلة ثالثة ستكون حاضنة للمواطنين الأكراد ومؤهلة للانضمام إلى كردستان. الافتراض الأخير الذي سوّقته الصحيفة الأميركية يتعلق بمستقبل اليمن وصعوبة الحفاظ على طابعه الوحدوي في ظل المتغيرات التي أحدثها «الربيع العربي». ويُستفاد من الرسم المنشور، باللونين الأزرق (الجنوب) والأصفر (الشمال)، أن هذه الدولة معرضة للانشطار بسبب فشل مؤتمرات الحوار. إضافة إلى أسباب أخرى ساعدت على تمزيق المجتمع القبلي عقب تغلغل «القاعدة» في اكثر من منطقة ومدينة فضلاً عن حراك الحوثيين بدعم من إيران. صحيح أن الرئيس عبد ربه منصور هادي وعد بتطبيق اللامركزية في المحافظات... ولكن الصحيح أيضاً أن دعوات الانفصال، التي يقودها من المنفى علي سالم البيض بواسطة «الحراك الجنوبي»، ستبقى هي العائق دون تحقيق الوحدة من جديد. وعن مستقبل العراق، وما إذا كانت الدويلات الثلاث التابعة لبغداد والبصرة وأربيل ستعود إلى سلطة حكم مركزي موحد، قالت الصحيفة: «إن الأمور ستظل على حالها من دون تعديل أو تبديل». وربما توصل محرر شؤون الشرق الأوسط إلى هذا الاستنتاج بسبب الغباء الأميركي الذي أسقط نظام صدام حسين، وسلم العراق لسيطرة عدوته إيران! التنبؤ بمستقبل ليبيا لم يكن صعباً، خصوصاً أن توحيد المناطق الكبرى الثلاث تحقق في مطلع الخمسينات بقيادة الملك إدريس السنوسي. وبعد مصرع معمر القذافي، استولت ميليشيات القبائل على ترسانة أسلحة ضخمة راحت تستخدمها لنشر سيطرتها. واستندت «نيويورك تايمز» إلى الماضي القريب، لتشير إلى احتمالات تجديد خطوط الحدود السابقة لثلاث مناطق ربما تصبح ثلاث دول منفصلة تتألف عواصمها من طرابلس وبنغازي وسبها. ويبدو أن عملية الخطف التي نفذها الجيش الأميركي، بنزيه الرقيعي (أبو أنس الليبي)، قد شجعت المجموعات الإسلامية على طلب الانتقام والانفصال عن سلطة حكومة علي زيدان. وكانت إحدى هذه المجموعات بقيادة شيوخ القبيلة في صحراء ليبيا، قد أعلنت الشهر الماضي انفصالها عن حكومة طرابلس. وتفادياً للاصطدام بعناصر «القاعدة»، كثفت تونس دوريات الأمن على طول حدودها مع ليبيا. وكذلك فعلت الجزائر التي اتهمت ليبيا بأنها تحولت، بعد مصرع القذافي، إلى مصنع لإنتاج الفوضى. وحول هذه الظاهرة كتبت الصحافية هيلين تويست تقول: «يظهر أن الديكتاتوريات في العالم العربي هي وحدها تشكل الضمانة لاستمرار وحدة الدول التي تفككت عقب سقوط قياداتها المتسلطة». واللافت في الأمر أن صحيفة «نيويورك تايمز» كانت قد دشنت هذا التوجه السياسي آخر السنة الماضية، محبذة فكرة تغيير خريطة الشرق الأوسط. وتبرع لتسويق هذا التوجه الخطر الكاتب الأميركي فرانك جاكوبس والمؤلف الهندي خبير العلاقات الدولية باراغ خانا. وكتب جاكوبس عن احتمال قيام دولة للعلويين في حال انتهت الحرب داخل سورية إلى تفكيك النظام. كذلك توقع نشوء دولة كردستان إذا استمر وضع العراق على ما هو عليه من تشرذم واقتتال بين السنة والشيعة. بينما ركّز باراغ خانا على مسألة انفصال جنوب السودان عبر الطرق السلمية والاستفتاء على حق تقرير المصير. ومن نموذج حل المشاكل الطائفية والعرقية، رأى هذا الكاتب أن الأممالمتحدة مرشحة لاستقبال مئة دولة جديدة، إضافة إلى مئتي دولة تتألف منها الجمعية العامة. وحول محصلة «الربيع العربي»، كتب في الوقت ذاته ألوف بن، رئيس تحرير جريدة «هآرتس» الإسرائيلية، سلسلة مقالات تحدث فيها عن النزاعات الداخلية في العالم العربي. وتوقع في نهاية الأمر أن تؤدي الحروب الأهلية إلى إعادة رسم خرائط إقليمية، تكون في تركيبتها السياسية مختلفة عن اتفاقية سايكس-بيكو. بعد انقضاء مئة سنة تقريباً على إعلان اتفاقية سايكس-بيكو (27 أيار/مايو - 1916) ظهر «الربيع العربي» كمرحلة جديدة تدعو إلى تغيير الأنظمة والخرائط التي رُسِمَت على أنقاض الامبراطورية العثمانية المنهارة. وقد تناوب على وضع تلك الاتفاقية وزير خارجية فرنسا جورج بيكو ووزير خارجية بريطانيا مارك سايكس. كذلك ظهر قبل سنتين تيار القومية العربية كجثة هامدة، الأمر الذي شجع تيار الإسلام السياسي على ملء الفراغ وإحياء الآمال باحتمال عودة «الخلافة الإسلامية.» ويرى المؤرخون أن حركة النهضة العربية ولدت سنة 1908 كرد فعل على الحركة الصهيونية التي دشن نشاطها في بازل تيودور هرتزل سنة 1895. وقد اعتمد القوميون العرب في المنتدى الأول الألوان الأربعة لرايتهم. أي الأبيض والأسود والأخضر والأحمر. وهي الألوان التي ذكرها الشاعر صفي الدين الحلي في أحد أبيات قصيدته: بيض صنائعنا، سود وقائعنا، خضر مرابعنا، حمر مواضينا. ولما انتهت حرب 1967 اغتنم موشيه دايان تلك المناسبة ليكتب في جريدة «جيروزالم بوست» مقالة ذكر فيها أن الانتصار الإسرائيلي لم يكن عسكرياً فقط، بل عقائدياً أيضاً: «لأن جمال عبد الناصر، الذي دحرناه، كان يمثل ذروة القومية العربية». مع وفاة اتفاقية سايكس-بيكو ومشروع القومية العربية، وانهيار النظام الشيوعي الذي احتضن الراديكاليين والعلمانيين... ظهر «الربيع العربي» كموجة تغيير شملت النظم التي ولدت من رحم الحرب العالمية الأولى، وتجذرت بعد الحرب العالمية الثانية. ومن المؤكد أن اختلال التوازن الذي حدث عقب غزو العراق (2003) قد فتح باب التمرد على مصراعيه أمام الشعوب العربية التي اعتبرت الديموقراطية الغربية سلعة مبتذلة يجب التخلص منها. ومعنى هذا أن أسلوب التظاهرات الدموية الجامحة سيبقى هو الأسلوب الطاغي على الأحداث لفترة طويلة، بحسب ما يتصور الكاتب محمد حسنين هيكل. وخلال لقاء جمعنا في فندق كلاريدجز (لندن) وصف هيكل العالم العربي بأنه يمر في مخاض عسير خبره الأوروبيون أثناء حروب المئة سنة. وبعد إراقة دماء غزيرة وتهاوي القيم الاجتماعية والثقافية، برزت فكرة فصل الدين عن الدولة كخشبة خلاص حققت لفرنسا وبريطانيا الاستقرار والأمن والنمو. ويتصور هيكل أن النزاع المحتدم بين الإسلاميين المتشددين والحكومات القائمة سيتعرض لانتكاسات وتراجعات قبل الاتفاق على صيغة الأنظمة الجديدة. ويبدو أن غالبية الدول التي حركها «الربيع العربي» تعاني من العنف الذي أطاح الثورة، ويهدد بالانحدار إلى مستوى الفوضى العارمة. وهذا ما تشهده تونس عبر الخلاف القائم بين المعارضة وحركة النهضة الإسلامية. وكان من الطبيعي أن يتعمق الخلاف إثر اغتيال المعارض محمد البراهيمي، وتعثر جلسات الحوار الوطني. بل هذا هو المأزق الذي تعاني مصر من تناقضاته، خصوصاً بعدما قرر «الإخوان» استرجاع رئيسهم المعتقل بقوة السلاح. وعندما شعرت الحكومة بخطورة الوضع الأمني، قررت تقديم الرئيس المعزول محمد مرسي إلى المحاكمة. وحددت المحكمة يوم 4 تشرين الثاني (نوفمبر) موعداً لإثارة قضية قتل متظاهري قصر الاتحادية. وكانت النيابة العامة في مصر قد أمرت بحبس مرسي على ذمة التحقيقات التي تجريها معه في قضية أحداث العنف التي وقعت أمام قصر الاتحادية الرئاسي. وتتوقع واشنطن، التي علقت معظم مساعداتها العسكرية لمصر، أن تفجر محاكمة مرسي الوضع الداخلي بطريقة غير مسبوقة، الأمر الذي يضطر الفريق أول عبدالفتاح السيسي إلى اتخاذ إجراءات صارمة لمقاومة المتشددين. الصحف الإسرائيلية تتوقع ازدياد عدد الدول العربية بعد نشوء دول جديدة يفرضها التغيير الديموغرافي، والنزاع السني-الشيعي في المنطقة. وهي تنتظر من أمين عام الجامعة العربية نبيل العربي وضع ميثاق حديث يحدد الشروط المطلوبة للانتساب. وكانت جمهورية جزر القمر آخر دولة تنضم إلى الجامعة سنة 1993. صورة الارتباك العربي، من وجهة نظر إسرائيل، ترى فيه تعزيزاً لوضعها الأمني سوف تستغله لتوسيع المستوطنات وتعطيل ظروف السلام مع الفلسطينيين. ويرى نتانياهو أن عودة حكم العسكر في مصر، وانتشار الحرب الطائفية في سورية، وانشغال «حزب الله» بالجبهات المفتوحة في حلب وحمص وحماة... كل هذه العوائق تشكل حماية لحدود بلاده البرية. كما تشكل عملية ازدياد أعداد الدول العربية داخل الجامعة حماية إضافية، كونها تشغل المنطقة بحروب أهلية يصفها الاستراتيجيون ب «سلة السلاطعين» الذين يقضون أوقاتهم بالعض والنهش. وهذا هو الوضع المثالي المريح لإسرائيل... * كاتب وصحافي لبناني