شَتّان بين باكورة المخرج الهولندي جيم تايهوتو «رباط»، الذي عرض قبل عامين، وفيلمه الثاني «ذئب»، الذي وصل إلى الصالات الهولندية قبل أيام. فبعد الفضاءات المفتوحة والألوان الحارة لفيلمه الأول، اختار المخرج الأبيض والأسود كخيار فني مقصود لقصة «ذئب»، ليزيد من قتامة المناخات، المعتمة أصلاً، لشخصياته الآتية من قلب «غيتو» المهاجرين في المدينة الهولندية الكبيرة التي تجري فيها الأحداث (لم يُفصح الفيلم عن اسمها). الاختلاف سيكون حاداً بين شخصيات فيلمه الأول (رحلة لثلاثة شباب عرب من أبناء جيل المهاجرين الثاني في هولندا، إلى مدينة الرباط في المغرب لتوصيل سيارة إلى هناك)، وشخصيات فيلم «ذئب». شباب فيلم «رباط»، كانوا على مشارف توديع مراهقتهم، والإقبال على مرحلة جديدة، صحيح إن الرحلة البريّة الطويلة، ستكشف إن صداقتهم ليست بالقوة الكافية لتصمد بوجه تلك التحولات، وإن مصائرهم ستتفرق بعد تلك الرحلة، لكن الفيلم ينتهي بخلاصات متفائلة عن الحياة والمستقبل. على الجانب الآخر، يبدو أبطال فيلم «ذئب»، وهم أيضاً من أبناء الجيل الثاني لمهاجرين عرب، غير معنيين بأسئلة الهوية والمستقبل. هم يعيشون في عالم معزول، مقطوع الصلة بالمحيط الأوروبي الواسع أو مجتمع المهاجرين، غير مشغولين كثيراً بإصلاح أنفسهم أو طلب المغفرة. الصداقة علاقة وحيدة وكما في فيلم «رباط»، ستكون الصداقة هي العلاقة الوحيدة والأهم بين أبطال فيلم «ذئب»، وهذا الأخير سيركز على تقلبات هذه العلاقات، كانعكاس للتطورات النفسية التي تمر بها الشخصيات. حيث في غياب علاقات سويّة للأبطال مع أهلهم، أو مع المحيط الأوروبي، تتحول علاقات الصداقة مع شباب مهاجرين مثلهم، إلى التواصل الإنساني الوحيد لهم مع العالم. بطلا فيلم «ّذئب»: مجيد وعادل، هما من أصول مغربية، من الجيل الذي لا يزال في معترك معضلات الهوية. فاللغة العربية هي لغة البيت والآباء، ولغة اللاشعور التي سيلجأ إليها الأبطال في حلكة أوقات جرائمهم. لن نعرف أي شيء عن الظروف التي قادت «عادل»، ليصل إلى ما هو عليه الآن، على عكس «مجيد» والذي سيقدم الفيلم بورتريه شخصي له، يكشف عن كثير من البحث والجهد للمخرج، والذي قام بكتابة الفيلم أيضاً. يبدأ فيلم «ذئب» بمشهد ليلي طويل للبطلين من قلب المدينة الهولندية الساهرة. لكن ما بدا إنه افتتاح لمشهد عنف قوي، سينتهي نهاية غير متوقعة تتضمن عنفاً مختلفاً وبعض الكوميديا، لكنه سيكفي للتعريف بالبطلين، أنهما لصان، قضيا عقوبات متفاوتة في السجن. والشابان هما زعيما الحي الصغير الذي يعيشان فيه. وهما يتشاركان، مع مهاجرين آخرين من الشرق الأوسط، الهيمنة على العالم السفلي للمدينة. القصة ستهتم بمجيد، الشاب الوسيم الكتوم، الملاكم الذي يرغب في العودة إلى الحلبة، ليطلق بعضاً من الغضب الذي يحمله، والذي عندما يتفجر لا يستطيع أحد وقفه. مجيد لا يختلف كثيراً عن أبطال سينمات السبعينات في أميركا، وخصوصاً أبطال أفلام مثل «الثور الهائج» و «شوارع دنيئة» للمخرج مارتن سكورسيزي، أي تلك الشخصيات التي تتوهم أنها على قمة العالم، بينما هي في الحقيقة في طريقها للتدحرج إلى قاعه. تحت سلطة الأب «مجيد»، الملك غير المتوج للمنطقة التي يعيش فيها، ما زال مراهقاً صغيراً تحت سلطة الأب الشرقي، في البيت الذي يعيش فيه مع أهله. ينجح الفيلم في منح مشاهد مجيد في بيته ذلك الضيق والاختناق، الذي يسم علاقة أجيال المهاجرين مع بعضهم. ينفجر الأب في أحد المشاهد بوجه الابن، ويذكره بعقود من العمل الشاق الذي قام به من أجل توفير حياة جيدة لأبنائه. هناك مشهد آخر أكثر رمزية وحِدّة، عندما يدخل مجيد بيت أهله، ليجد الأب يضرب آخاه الأصغر. وجه البطل الشاب سيتفجر بالأسى والغضب، فما يحدث أمام عينيه يبدو جزءاً من دورة لا تنتهي من العنف وسوء الفهم. الأم، ستحضر، لكنها مغيبة تماماً، وهناك آخ عليل لمجيد يصارع في المستشفى مرض السرطان. شخصية الأخ بدت زائدة، كما أنها تحمل تشاؤماً مبطناً، فالأخ المتصالح مع نفسه وحياته في هولندا، في طريقه لتوديع العالم! هناك أكثر من اتجاه سردي وفكري في الفيلم، فهو يرغب أن يقدم قصة معاصرة، عن شخصيات بخلفيات اجتماعية واقعية، تفسر انحرافها عن قِيّم المجتمعات التي تعيش فيها، لكنه، أي الفيلم، يريد أن يقدم في الوقت ذاته، قصة تشكيل عصابة والدينامية التي تنشأ بين أفرادها، بخاصة في زمن الأزمات والمواقف المرعبة التي تمر عليها، والصراع الحتمي الذي يدور بين أعضائها، وهناك أيضاً خط سردي عن صعود نجم الملاكم «مجيد»، في مباريات الملاكمة العنيفة، والتي يحضرها جمهور، جلّه من العالم السفلي للمدينة، هذه الاتجاهات الثلاث، ستحاول أن تسحب الفيلم باتجاهها، لينتهي بالفيلم لأن يكون تجربة غير مرضيّة بشكل عام. يَكشف المخرج جيم تايهوتو، في حديثة لصحيفة «فيلم» الهولندية، بأن كل تفصيلة صغيرة تخص الجرائم في فيلم «ذئب» وقعت فعلاً، وإنه استند بالكامل على حوادث من الواقع الهولندي من السنوات الأخيرة، والذي يتجنب كثيرون النظر إليه والتفكير به، وبأن جدار مكتبه، مغطى بقصاصات من الصحف الهولندية، عن جرائم كان يقف وراءها مهاجرون من السنوات الأربع الأخيرة فقط. ويؤكد أن غرض الفيلم، هو تقديم هذا العالم المُعتم، الذي تتجنبه الكياسة السياسية أو الفنيّة الهولندية، لعدم رغبتها في تهييج مشاعر عدائية إضافية ضد المهاجرين والهجرة. لكن، وعلى خلاف الفيلم الأول، يَنزلق فيلم «ذئب» سريعاً لتقديم الصور النمطية الشائعة عن المهاجرين، والتي من الصعب بمكان تجنبها عند تقديم قصصهم، فالتعقيدات الذي يحيط بظروف حياة المهاجر، وعلاقته بمحيطه الأصلي والجديد، تتطلب أدوات فنية محترفة ومعالجة مُعمقة لا تغفل النسيج العام، الذي ينتمي إليه المهاجر، فجزء من تميز فيلم «رباط»، أنه وجد حلاً مبتكراً، بإخراج شخصياته من واقعها اليومي، وإرسالها في رحلة برية طويلة، لكي تواجه الأسئلة الشخصية الحادّة بعيداً عن اليوميّ والعابر.