في كل من الأفلام الهولندية التي تقدم قصصاً عن مهاجرين مغاربة من أبناء الجيل الثاني والثالث، وصارعددها أربعة أفلام طويلة في السنوات الثماني الماضية، هناك رحلة يقطعها أبطال تلك الأفلام الى بلد الآباء في المغرب. هذه الرحلات، التي تبدو كسبيل للبحث عن خلاص من أزمات ذاتية وانغلاق الافق وتردي العلاقات مع المحيط الاجتماعي، ستؤدي بالأبطال ذاتهم الى ضفة أخرى غير متوقعة أحياناً، فبطل أول أفلام هذه المجموعة من الأفلام («شوف شوف حبيبي»، الذي عرض في عام 2004)، يختار القرية الجبلية المغربية التي غادرها والده قبل أربعين عاماً لغلق جراح حياته الهولندية. لكن الشاب الذي كان يسير على حافة السقوط في عالم الجريمة، سرعان ما يكتشف أن القرية التي اعتاد أن يزورها مع أهله في إجازات الصيف السنوية، لا تملك الأجوبة على اسئلة حياته الحادة، وبأن عليه ان يعود الى هولندا ليبحث من هناك عن مستقبل ما يناسب الهوية التي يمكن ان تكون خاصة له ولجيل كامل من أبناء المهاجرين، هوية لا تصطدم بالضرروة بتقاليد بلد الأجداد او تلك التي تخص البلدان الجديدة. واذا كانت الرحلات الفعلية والمجازية حاضرةً ايضاً في «دنيا وديزي» (2008)، و «ضربات» (2007)، فهي ستكون الأساس الذي يستند إليه سيناريو فيلم «الرباط» الذي يعرض في الصالات الهولندية حالياً. إن الرحلة «الفعلية» بالسيارة من العاصمة الهولندية امستردام الى مدينة الرباط المغربية، ستأخذ معظم وقت الفيلم، ولن يحتاج بطل الفيلم الشاب الى قضاء كثير من الوقت في المدينة التي هاجر منها والده قبل عقود، فالدراما والمكاشفات الذاتية تتواصل هنا على طول ساعات السفر الطويلة، وستستمر حتى أعتاب المدينة المغربية. النوايا الخفية تبدأ رحلة السفر الطويلة مبكراً جداً من وقت الفيلم، فعندما يكشف البطل (نادر) لاثنين من أصدقائه (عبد وزكريا) عن رغبته بإيصال التاكسي القديم الذي اشتغل عليه والده لسنوات في هولندا الى احد اصدقاء الأخير القدماء في مدينة الرباط، يصرّ الصديقان على مرافقته في رحلة ستمر بعدة دول أوروبية، قبل ان تصل الى سواحل «الاطلسي» في جنوبإسبانيا، والذي يفصلها عن افريقيا. يخفي البطل النية الحقيقية من سفرته الى «الرباط»، وهي الزواج من ابنة صديق أبيه، والتي لم يقابلها في حياته، البطل أخفى ايضاً خبر حصوله على وظيفة في أمستردام، وهو الامر الذي يعني تخليه عن مشروع مشترك متعثر مع الصديقين لفتح مطعم للأكلات السريعة في امستردام. هذه الاسرار لن تكون الاسباب الوحيدة للبرود الذي يقترب الى الجفاء الذي يصبغ تعامل البطل مع رفيقيه، فالصداقة نفسها تقترب من نهايتها، وسيواجه الاصدقاء الذين يقتربون من عقدهم الثالث وتربطهم ذكريات طفولة وحياة صاخبة في الحي الشعبي الواحد، أسئلةَ «النضج» والحياة «الحقيقية» لاول مرة في حياتهم. وككل أفلام الطريق، توفر التقاطعات بين ابطال فيلم «الرباط» والغرباء الذين يصادفونهم في رحلتهم البرية الطويلة، الفرصةَ لفهم الخلفيات النفسية لشخصيات الفيلم الاساسية. لكنها بالمقابل تمنح اهتماما اقل، على خلاف الاتجاه العام لأفلام الطريق المعروفة، لأولئك العابرين الذين يمرون على الشاشة، فالفيلم يختار التركيز فقط على تلك التفاصيل التي تسللت الى علاقة محيط اوروبي مع الابطال الشباب كنموذج لعلاقة أوروبا مع مهاجريها المسلمين، وما اعترى تلك العلاقة من أضرار فادحة، منذ تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، مروراً بصعود الاحزاب اليمينية الأوروبية، الى العمليات الارهابية التي ضربت اوروبا. لكن الفيلم لم يتجه سريعاً الى قبول نتائج مبسطة، بل قدم في المقابل تفاصيل تلقي المسؤولية على الجميع، فالإهانة التي تعرّض لها «عبد» و «زكريا»، عندما رفض حارس النادي الليلي الاسباني السماح لهما بالدخول، لا تبرر أبداً الضربَ الوحشي الذي تلقاه هذا الحارس من الشابين انفسهما عندما صادفوه وحيداً في وقت متاخر من المساء نفسه. صحيح ان نظرات الريبة التي تلاحق الشبان عند دخولهم محطات تزويد الوقود لها ما يبررها، خاصة ان احد الأبطال الثلاثة كان يصر على سرقة بضائع من تلك التي تقدمها محلات البضائع الملحقة بتلك المحطات، لكن اكثر مشاهد الفيلم قساوة، والتي تندرج في سياق العلاقة المضطربة بين أوروبيين من اصول عربية ومجتمعاتهم الاوروبية، لم تكن من افعال ناس عاديين، بل افراد من السلطة نفسها، فعندما يوقف البوليس الاسباني سيارة التاكسي التي يستقلها أبطال الفيلم قبل وصولها الى الميناء الذي تنطلق منه السفن الى المغرب، تبدأ سلسلة من المشاهد المرعبة حقاً، من عنف وإهانات قاسية يتعرض لها الشبان الثلاثة من دون أي أسباب أبداً، إضافة الى تعمد رجلي الشرطة الإسبان إعطاب أحد مصابيح السيارة، في سلوك يستند الى حوادث حقيقية متفرقة ينقل بعضها الإعلام الهولندي بين حين وآخر. تطوّر عميق لا تعاني حياة «نادر» الحدة والتمزق اللذين تحملهما شخصيات أفلام المهاجرين المغاربة الأخرى، او هكذا تقترح المشاهد الافتتاحية، لكن التطور العميق في أداء الممثل نصر الدين إدشار، الذي لعب دور (نادر)، والإخراج المتمكن لمخرجي الفيلم فيكتور بونتين وجيم تايهوتي، يحيلان مشروع الزواج التقليدي للشاب الهولندي المسلم، الى رمز مؤثر لنهاية حلم وانكسار لاسلوب حياة أقرب الى جوهر البطل، من آخر كان سيبدأ بزواج مرتّب، وسيؤدي على الغالب الى تعميق المسافة بين «الفردية» ونقيضها، إذ عندما يدرك «نادر» فداحة الخطوة التي يقترب من القيام بها، ينفجر الكثير من غضبه الخفي، في مشاهد رائعة، أبرزها تلك المشاجرة بين الشبان الثلاثة على الساحل القريب من مدينة الرباط، والتي تميزت بتوليفها المتفجر والأداء البارز للأبطال الثلاثة. في خضمّ هذا كله، يبقى الأمر اللافت في كل أفلام المهاجرين المذكورة، هي صور المغرب والمغاربة التي تطل من تلك الأفلام، فالكثير من الاهتمام اتجه الى أجزاء الأفلام التي صورت هناك، وبتقديم شخصيات إنسانية، متوازنة، معقدة، مغرقة أحياناً بالحزن، كالمشهد المؤلم للفتاة المغربية التي كانت تتوسل بطل فيلم «شوف شوف حبيبي»، الذي اختار اختها الصغرى للزواج والالتحاق به في هولندا، لتعديل رأيه والزواج منها، وإلا ستبقى في قريتها البعيدة من دون تعليم او فرص للزواج. وتلك التي تخص عائلة فتاة فيلم «الرباط» التي تنتمي الى الطبقة الوسطى المغربية، والتي بدت مهتمة كثيراً بمستقبل ابنتها، غير مأخوذة بالعريس القادم من أوروبا. حتى المغاربة الذين يمرون بسرعة في تلك الأفلام، ويقترب بعضهم من الشخصيات الكاريكاتورية، يمكن تقبلهم كجزء من نسيج المجتمع المغربي الذي يملك نسق حياته الخاص، والذي يعجز في الغالب عن توفير حلول ناجعة لأزمات ابنائه المهاجرين.