لم يَعد مصطلح «الهجرة» أو «المهاجرين» في السينما الأوروبية، والذي يحيل سريعاً الى أفلام تُقدم الرحلة الأزليّة لبشر في بحثهم عن حياة أفضل، دقيقاً تماماً او معبراً عن كل الاتجاهات الفنية المتنوعة التي تظهر في أفلام الغرباء والمهاجرين الى القارة الأوروبية في العقدين الأخريين. فبعد أن كانت فئة ما يُعرف بسينما الهجرة، مشغولة بشكل أساسي باللقاء او التصادم الأول لمهاجرين مع مجتمعاتهم الجديدة، تتنوع اليوم القصص والإشكاليّات في الأفلام المُقدّمة، فمع بقاء ثيمة التصادم الأول، بما تَحمله من ترميز معروف، عن اللقاء بين الشمال والجنوب او الشرق والغرب، في أفلام عديدة، انضمت إليها منذ سنوات أفلام عن مُعضلات الإندماج لأبناء المهاجرين من الأجيال الأولى والثانية، وتمزّقهم بين تقاليد الآباء وشروط الحياة في الدول التي ولدوا فيها. وهناك الى هذه، أفلام اللاجئين السياسيين، والتي تحولت الى فئة فرعية ضمن اتجاه سينما الغرباء، بما تعكسه قصصهم من صدى لأحداث العالم العنيفة المعاصرة، والعذاب الخاص، وأحياناً الجحيم الذي يعيشونه. وفي كل هذه الاتجاهات المذكورة، هناك حصة دائمة لأفلام المسلمين المهاجرين، الذين يغلف حضورهم، ومنذ الحادي عشر من سبتمبر، حدة وشكوك مثيرة للجدّل الكبير، لتتميز تلك القصص والشخصيات بمواصفات خاصة، الى الحد الذي تقترب به الأفلام التي تتناول شخصيات مسلمة، لأن تكوّن اتجاهاً خاصاً وحدها، ضمن سينما الغرباء الأوروبية. تنضوي معظم أفلام الغرباء والمهاجرين، بمواضيعها وأساليبها الفنية، تحت فئة السينما الأوروبية الاجتماعية الواقعية، لتستفيد هذه الأخيرة من التنوع التي تحمله قصص تلك الأفلام في إثراء مواضيعها وشحنها بِمِحّن وتحديات، تكون أحياناً ناشزة عن نسيج واقعها او تنتمي لماضي المجتمعات الأوروبية البعيد. فلا يحتاج المخرج او المخرجة الأوروبية اليوم، ومع نسبة المهاجرين المرتفعة في معظم الدول الأوروبية، للذهاب الى قارة أخرى لتقديم قصة عن جرائم الشرف أو عن شخصيات مُمّتحِنه بهويتها الجنسية المختلفة او عن أرواح مُعذبة، تعاني من كوابيس الحروب والتعذيب الجسدي والروحيّ، والذي تعرضت إليه في بلدانها الأصلية. هي موجودة حوله، تَنقل أخبارها صحفه وقنواته التلفزيونية المحليّة، ويمكن أن تسكن على طرف الشارع الذي يعيش فيه، وتتناول القهوة في نفس المقهى الذي يتردد عليه. ينتمي فيلم «فينيسيا الصغيرة» للمخرج الإيطالي أندريا سيجري، والذي وصل الى الصالات السينمائية الهولندية أخيراً، إلى الاتجاه التقليدي في سينما المهاجرين، مع بعض التحديثات المُهمة. فهو يُصور السنة الأولى من حياة مهاجرة الى القارة الأوروبية (إيطاليا)، وتمزّقها بين الحنين الى بلدها، وتحديّات حياتها الجديدة، والقسوة التي تواجهها من مشغليها. لكن المهاجرة الصينية بطلة الفيلم (شون لي)، التي تصل الى إيطاليا للعمل، تُستغل بالدرجة الأساس من أبناء بلدها، والذين يفرضون عليها أن تعمل كعبدة في شركات ومقاه، تعود لصينين يعيشون في إيطاليا. الشخصية هنا، تجد العون والتعاطف من إيطاليين، كما تواجه صوراً نمطية من آخرين في البلد الأوروبي، والتي ستكون هنا نِتاج سُمعة كرستها ممارسات شركات وأفراد صينيين في إيطاليا. لن تكون «شون لي» مُهاجرة غير شرعية، لكن الجهة التي ساعدتها للوصول، تعمل في الحدود الرفيعة بين الجريمة والقانون. كما ترفض تلك الجهة، أن تصحب السيدة الصينية ابنها الصبي، لتتركه مع جده في البلد الآسيوي البعيد. بين الصيادين بعد أن تقضي فترة قصيرة كعاملة في معمل للألبسة، تُرسل «شون لي» للعمل في مقهى في قرية صغيرة للصيادين، على حافة مدينة فينيسا الإيطالية المعروفة. هناك ستتعرف على صياد متقاعد، مهاجر بدوره منذ عقود من إحدى دول البلقان. سيتحدث الصديقان الجديدان في الشعر، الذي يعشقانه. الشعر في الفيلم يملك أهمية رمزية كبيرة، فشون لي متعلقة بالذكريات الجماعيّة للاحتفال بشاعر صيني قديم، والتي كانت تقام في بلدتها الصغيرة. الشعر سيكون الملاذ والفضاء البعيدين عن واقع الحياة المعقد، كما يكتنز باستعارته وصوره الشعرية الحميمية، ذكرى الأوطان الأولى. الصياد المتعاقد، هو شاعر أيضاً، يَنظم الشعر ويقرأه للراغبين. لن نعرف الكثير من حكايته، وسبب هجرته، لكنه مُنسجم مع مجتمعه الجديد، دون أن ينسى ماضيه، والذي سيقربه من المُهاجرة الجديدة، التي تخدم الآن في المقهى الذي يتردد عليه. يقدم المخرج الإيطالي في باكورته الروائية هذه، وبعد مجموعة من الأفلام التسجيلية، سيناريو بأحداث وتركيبة تقليدية متوقعة، لكنه، اي المخرج، وباهتمامه بالتفاصيل الصغيرة الدقيقة، والشخصيات الثانوية، يمنح تلك القصة الشرعية والصدقية الكافية. حتى في المشاهد التي تتحدث بإفراط عن الشعر والحنين، والتي كان يمكن أن تتجه الى العاطفية الشديدة، تأخذ في الفيلم وجهات غير متوقعة، الأمر الذي يزيد من قوتها وشجنها وبالتالي تأثيرها، كالمشهد الافتتاحي البليغ بإشاراته، الذي صور بِقُرب كبير، زوارق ورقية صغيرة محملة بشموع، كانت تبحر في الماء. في الخلفية كان صوت «شون لي»، يلقي أبياتاً من شعر الشاعر الصيني. بابتعاد الكاميرا، يَتَكشف محيط المشهد الحقيقي، فالبطلة ورفيقها، كانا يسيّران زوارقهما في حوض اغتسال حمام شقة مهترئة، يَجلس في غرفة جلوسها رجال صينيون يلعبون القمار، ويتفاحشون بلغة سوقيّة. يرفض مالك المقهى، قصة حب «شون لي» وصاحبها الصياد المتقاعد، يستجيب الفيلم لهذا التحدي بمسار يحيد قليلاً عن المعالجة التقليدية العامة له،والتي بدت في معظمها، وكأنها سائرة صوب نهاية مُفرحة. ويُمكن ان يقال هنا إن القصة عادت في الجزء الأخير من الفيلم الى «الواقع»، والذي لا يعني دائماً طرقاً مسدودة. تبرز تأثيرات السينما التسجيلية على الفيلم، بخاصة في مشاهد «شون لي» الأولى في المقهى، والتي بَدَت وكانها مُرتجلة، والمؤكد إنها حصيلة تراكمات فِعل مراقبة للمخرج لسنوات، عندما كان يلاحق شخصياته الحقيقية في أفلامه التسجيلية. تهمين الممثلة الصينية المعروفة تاو تشاو على معظم مشاهد الفيلم. هي تؤدي هنا دور سيدة قوية، لا تتخلى عن جوهرها الإنساني، رغم التباس الواقع وماديته. تاو تشاو من الممثلات القليلات اللواتي نجحن في حمل موهبتهن بتوفيق الى سينمات مختلفة بأسلوبها ولغتها، مع الإشارة إلى إن جزءاً مهماً من حوارات الممثلة كان باللغة الصينية، والجزء الآخر بالإيطالية.