«أيّ تهديد يُمكن أن يُشكّله طالب كلّيّة مسائية، مقبل على التخرّج، يعمل في البناء ويتعلّم الموسيقى، لسلطة يحرسها جيش وشرطة ودبابات وطائرات ومدافع وصواريخ؟» (ص270). هذا السؤال تطرحه مكّيّة الحسن، بطلة رواية «دروب الفقدان» (دار المدى) للكاتب العراقي عبدالله صخي، على نفسها، غداة قيام السلطة المنبثقة عن النظام العراقي السابق بتوقيف ابنها الوحيد علي سلمان، البطل الآخر للرواية، والتحقيق معه. وهو سؤال يختصر طرفي المعادلة التي تنتظم حياة العراقيين في ظل ذلك النظام؛ فمن جهة، ثمة مواطن يهتم بالعلم والعمل والفن، أعزل من أي سلاح سوى رفضه الانتماء الى الحزب الحاكم ومنظّماته، يخشى من السلطة ويخيفها بموقفه الممانع. ومن جهة ثانية، ثمة سلطة مدجّجة بكلّ أنواع الأسلحة المادية وتخشى الرأي الآخر، لا، بل الرأي المستقل أيضاً. وهكذا، يشكّل الخوف والتخويف محور العلاقات التي تنتظم الرواية. تدور أحداث الرواية في أوائل سبعينات القرن العشرين، في مدينة الثورة ومحيطها، وهي المرحلة التي أعقبت الإطاحة بعبدالكريم قاسم، وشهدت صراعاً خفيّاً ومعلناً على السلطة بين حزب البعث الحاكم والحزب الشيوعي العراقي، جرت خلاله مطاردة الشيوعيين والتنكيل بهم وقتلهم واعتقالهم تحت غلالة التحالف بين الحزبين. تبدأ الرواية بواقعة إعدام نايف الساعدي الذي قتل عدداً من رجال الأمن دفاعاً عن مناضلة شيوعية، وتنتهي بموت مكّيّة الحسن، المرأة القوية، قهراً على اعتقال ابنها الوحيد علي سلمان وتغييبه. وهكذا، تمثّل البداية والنهاية تجسيداً لقمع السلطة الحاكمة، المباشر وغير المباشر. وبينهما سلسلة من الممارسات القمعية، بعض حلقاتها: التحقيق والتوقيف الموقّت (نادية اسماعيل، علوان عزيز، جاسم البدوي)، التعذيب (حامد عودة)، الفرار (عماد اسماعيل)، الاعتقال والإخفاء (علي سلمان)، والإعدام (نايف الساعدي، بشار رشيد، فلاح درويش، حسن سريع، حمدان عبدالواحد). في مواجهة هذه الممارسات القمعية، يلجأ الطرف الآخر من المعادلة، الناس، إلى آليّات دفاع تتراوح بين الغضب المكتوم إثر إعدام نايف الساعدي، وإقامة مجالس عزاء مموّهة، ورفض الانضمام إلى الحزب ومنظّماته (علي سلمان)، والصمت (علاء شاكر)، والامتناع عن مزاولة العمل ومراسلة الأقرباء (سوادي حميد)، والانتقام المباشر (نايف الساعدي، سعد كابور)، ومحاولة قلب النظام (حسن سريع، حمدان عبدالواحد)، لكنّ هذه الآليّات تُربك السلطة، وتُخيفها من دون أن تغيّر الواقع. يتفرّع عن القمع السياسي الذي تمارسه السلطة، قمع آخر يشكّل فرعاً منه وامتداداً له، هو القمع الاجتماعي. فالقمع يولّد القمع. على أن الفارق بين النوعين هو أن هذا الأخير يُمارسه المحكومون، بعضهم بحق البعض الآخر. وهو ناجم عن الجهل والتخلّف والعنصرية والعادات والتقاليد البالية. وهنا، يغدو المقموع ضحيّة السلطة من جهة، وضحيّة الهيئة الاجتماعية من جهة ثانية. ومن تمظهرات هذا النوع: قيام الحماة بالتحريض على كنّتها، وتلفيق التهم لها، وقيام الزوج بضرب زوجته، ما يؤدي إلى الطلاق وتردي الزوجة في العزلة والكآبة (مديحة). رفض الإخوة تزويج أختهم من رجل أسود البشرة، وقيامهم بمحاولة قتله، واحتجاز أختهم ومنعها من الاتصال به، ومنع ابنها من الاتصال بأبيه (سوادي حميد وحسنة وبحر). ممارسة المعلم القسوة والضرب مع تلاميذه (الملا عيسى). قيام ابن العم برمي «النهوة» على ابنة عمه لرفضها الزواج منه (بلقيس الخياطة)... والملاحظ، هنا، أن معظم الشخصيات التي وقع عليها القمع الاجتماعي من النساء. مصائر قاتمة على أن القمع الواقع على شخصيات الرواية، ببعديه السياسي والاجتماعي، وبشكليه المباشر وغير المباشر، يؤدّي إلى تحوّلات سلبية، ومصائر قاتمة تؤول إليها هذه الشخصيات وتحول دون تحقيق أحلامها في حياة حرّة، كريمة؛ فعلي سلمان، بطل الرواية، الذي كان على وشك التخرّج، المراهن على وظيفة حكومية، الحالم بالموسيقى، المنخرط في علاقة حب، يُعتقل ويتمّ تغييبه. ومكّيّة الحسن، أمّه، التي كانت تتطلّع إلى توظيف ابنها ليحمل عنها مسؤولية إعالة الأسرة، تشيخ سريعاً بعد اعتقاله، تهيم على وجهها، تفقد التركيز والذاكرة، وتموت قبل أن تراه. ومديحة، أخته، ضحيّة القمع الاجتماعي، تتردّى في العزلة والكآبة. وسوادي حميد، الرجل الأسود، ينتهي وحيداً من دون تحقيق حلمه في لمِّ شمل أسرته. وعزيز علوان، المربّي السابق، يخلد إلى الوحدة تحت وطأة التهديد المبطّن. وحامد عودة، الموظّف الحكومي، يتخلّى عن الوظيفة تحت وطأة التعذيب، ويعود إلى مسقط رأسه. ومحمد هادي، صديق علي سلمان، يتنكّر للصداقة، ويُمارس التعالي على الناس، ويقاطعهم بعد انخراطه في سلك الأمن. ناهيك بمن اعتُقل أو عُذّب أو أُعدم. وهكذا، تكون الرواية رواية الأحلام المجهضة، وعلاقات الحب المنكسرة، والرغبات المقموعة، والنساء الضحايا، والمعارضين المطارَدين، والمنفيّين قسراً، والمُخلدين إلى الصمت والوحدة... ولعلّها أرادت القول باستحالة: تحقيق الأحلام، واكتمال الحب، ولمّ الشمل، وانتظام الحياة، في ضوء القمع، سواء أكان سياسيّاً أم اجتماعيّاً. يضع عبدالله صخي روايته، في خمسة عشر فصلاً سرديّاً، ويُسند عملية الروي إلى راوٍ عليم، فيُمسك هذا بمجموعة خيوط سردية، أطولُها خيطا علي سلمان وأمّه مكّيّة الحسن، ويتلاعب بها ظهوراً واختفاءً حتى تروح تنقطع واحداً تلو الآخر تبعاً لمقتضيات اللعبة الروائية. والعلاقة بين الفصول المختلفة هي علاقة استمرار أو انقطاع، فقد تكون بداية الفصل الجديد استمراراً لفصل سابق، وقد تكون رأس خيط سردي جديد ينخرط في تناغم مع الخيوط الأخرى. مع العلم أن معظم الخيوط يتمحور حول الخيطين الرئيسين. أمّا العلاقة داخل الفصل الواحد فهي علاقة تجاور وتنوّع وترابط. على أن الانتقال من مشهد إلى آخر يتمّ لوجود رابط معيّن بين المشهدين، والرابط قد يكون اسم شخصية جديدة، ما يدعو إلى قطع السرد بتقديم الشخصية من الخارج أو الداخل واستعادة نشأتها وماضيها، وقد يكون الرابط زيارة مكان يثير ذكريات لدى الزائر، وقد يكون رؤية منظر ما يستدعي تجربة سابقة للرائي... وبغضّ النظر عن عرَضيّة الرابط أو قوّته، فإن الانتقال بين المشاهد يتمّ بسهولة ويُسر، وهو طبيعيٌّ وغير مفتعل في معظم الأحيان. وهكذا، نكون إزاء تعدّد أزمنة داخل الفصل الواحد ينعكس حيوية، ويكسر رتابة السرد. على أن العلاقة بين حركة السرد وحركة الزمن هي طرديّة غالباً، وهي عكسيّة في بعض الفصول. وإذا كان الزمن في الرواية خطّياً غالباً، فإن هذه الخطّيّة قد يتمّ كسرها بتقديم شخصية أو وصف مكان أو استعادة ذكرى. وكلّ ذلك يحصل بلغة طليّة، سلسة، تقطعها حوارات محدودة بالمحكية العراقية يجرى شرحها في الهوامش، ومقاطع من أغنيات شعبية تُشرَح بدورها ما يُوهم بواقعية الحكاية وصدقها. أمّا المكان الروائي فلم ينأَ عن تداعيات القمع، ما يُخرجه عن وظيفته الأصلية وطبيعته، فيتحوّل ملعب كرة القدم من مكان لممارسة الرياضة إلى مكان للإعدام، ويتحوّل المقهى من مكان للتسلية والترفيه إلى مكان للتجسّس على الناس، وتغدو مدينة الثورة مدينة للسلطة والتسلّط. وبعد، بهذه المكوّنات والمواصفات، تصبح «دروب الفقدان» دروباً للرواية الهادفة التي تفكّك القمع على أنواعه، ويحفل السير فيها بالمتعة والفائدة من دون أن تخلو من بعض المطبّات.