تبدأ رواية «العتمة» للكاتبة السعودية سلام عبدالعزيز (دار الساقي) بالقتل وتنتهي به وبين البداية والنهاية ثمة تمظهرات كثيرة للعتمة على المستويين الفردي والاجتماعي تقوم الكاتبة برصدها وتعريتها من خلال الشخصيات وعلاقاتها في ما بينها! ومن هذه التمظهرات: القبلية، والقمع، والرقابة، والكبت، والعقلية الذكورية، والجمود، والطائفية وسواها.... فمفردة العتمة في الرواية تتخطى المعنى اللغوي لتكتسب مدلولات كثيرة مختلفة باختلاف السياقات اللفطية التي ترد فيها. غير أن أخطر تمظهرات العتمة وأكثرها حضوراً في النص هو القبلية، فبدافع منها يرتكب مطلق المتحدر من أسرة تستصغر الناس وتستعلي عليهم جريمة قتل حميدان المخبول في بداية (الرواية) وبدافع منها يرتكب الأب أبو منصور جريمة قتل أمل ابنته الوحيدة لمنعها من «الزواج من راشد الماجد بحجة أنه «مهو من مواخيذنا» في نهاية الرواية. وإذا كانت علاقة الحب المجهض بالقتل تشكل العمود الفقري في الرواية والخيط الأطول فيها، وتعكس تحكم الروح القبلية/ العنصرية، بشريحة اجتماعية واسعة، فإن خيوطاً أخرى تتمحور حول هذا الخيط، وتواكبه، وتلتف عليه، وتعكس مظاهر أخرى للعتمة في المجتمع الذي تتناوله الرواية! ففي النص لكل شخصية خيطها وعتمتها، وهي خيوط تتفاوت في الطول والقصر وأنواع العتمات، وتشترك في تفاعلها مع الخيط الرئيسي في تشكيل النسيج الروائي أو الحبل. تمسك سلام عبدالعزيز الخيوط ببراعة، وتروح تدخلها في علاقات جدلية بين الظهور والاختفاء! فما إن يظهر الواحد منها حتى يختفى ليظهر آخر يختفي بدوره ليظهر خيط ثالث، وهكذا دواليك، في متوالية سردية مستمرة، على مدى الرواية، ثم تروح تلك الخيوط تنقطع واحداً تلو الآخر حتى الخيط الأخير، وهو الأطول والأكثر تواتراً. وبتعبير آخر، تقوم عبدالعزيز بحشد عدد كبير من المشاهد واللوحات السردية المتنوعة، وتنتقل من مشهد الى آخر من دون رابط بالضرورة بين المشهدين. فالمشاهد تتعاقب وتتجاوز في الحيز الروائي نفسه، ومع السرد، نروح نكتشف العلاقات في ما بينها بما فيها من تداخل وانفتاح بعضها على بعض. على أن بعض الوحدات السردية المنخرطة في السياق والمستقلة عنه في آن تستوفي شروط القصة القصيرة كما في وحدتي «الباحث عن مرفأ» و «الفخ»، على سبيل المثال. هذه العمليات السردية تصطنعها الكاتبة بلغة أنيقة، تبدأ جملها بأفعال مضارعة تتدفق في حركة موجية وفق ايقاع معين، تقل فيها أدوات الربط بين الجمل وتوحد داخل الجملة الواحدة المركبة، ما يجعل المسرود معيشاً وراهناً. وفي محاولة منها لتوفير الواقعية والصدق الفني لنصها راحت تورد مقاطع من أغنيات محلية وتصوغ الحوار بالمحكية السعودية ما قد يحول دون وصول بعض المفردات الى القارئ غير الخليجي. على أن ما ينبغي تسجيله للكاتبة أنها عرفت كيف ترتقي باللغة الى مستوى اللحظة الدرامية الروائية، فإذا بنا نحبس أنفاسنا في بعض المشاهد كما في اللقاء بين راشد وأمل الذي ورد بعنوان «في الديرة»، وكما في نهاية الرواية، على سبيل المثال. كثيرة هي أسماء «العتمة» وتمظهراتها في الرواية، وكثيرون هم أبطالها أو ضحاياها، فمن القبلية التي تجد ترجمتها الروائية في اقدام مطلق على قتل حميدان وفي رفض والد أمل تزويجها من راشد ومن ثم قتلها، الى القمع الإداري الذي تمثّل في اقدام الوزارة على فصل راشد وجعفر من العمل لإجازتهما كتاباً يخالف العقيدة العامة، الى الممارسات الفئوية، الى الطائفية التي تمثلت في تعصب جعفر الطائفي وحقده على المجموع محملاً إياه تبعات البعض، الى الكبت الجنسي الذي تمثل في انحراف البعض الى مثلية عاطفية كما في حالة التلميذة نشمية، الى الغدر والخيانة الزوجية كما في اقدام حمود على خيانة أخيه ووضع اليد على زوجته، الى العقلية الذكورية التي تجد ترجمتها في الضرب برغبات المرأة عرض الحائط وتسفيه رأيها في كل حين. غير أنه، وفي مقابل هذه التمظهرات، كان ثمة كوى ينفذ منها الضوء، وكثيراً ما كان ينبثق من العتمة نفسها أو مما يجاورها فمطلق القاتل يندم كثيراً على فعلته ويتخلى عن العنجهية الفارغة، وحمود الذي غدر بأخيه ما يلبث أن يعفو عن قاتل أخيه رافضاً أية فدية، وأبو جعفر الذي انزلق ابنه الى درك الطائفية يعلي ولاءه الوطني على أي ولاء آخر، وراشد يترفع عن أية ممارسات فئوية ويبر بأصدقائه في السراء والضراء، وهيلة أخت الرجال لا تتوانى عن مساعدة الآخرين، وأمل تتصدى بشجاعة للقيم القبلية وتدفع حياتها ثمناً لذلك، وراشد أيضاً يحاول افتداء الحبيبة بنفسه غير أن الاقدار تجري بما لا يشتهي. صحيح أن سلام عبدالعزيز تضيء العتمة في المجتمع والأفراد على اختلاف تمظهراتها، فتأتي روايتها صرخة في وجه الجمود والتخلف والجاهلية المستمرة في بعض العقليات والعادات والتقاليد والقيم. غير أن الصحيح أيضاً أنها تُفرد للضوء حيّزاً خاصاً في الرواية، وتثبت أن الخير والحب والصداقة والعفو وافتداء الآخر قيم متأصلة في المجتمع السعودي ولا يمكن للعتمة مهما أدلهمت أن تحجب تلك القيم. الى ذلك، تحفل الرواية بكثير من الملاحظات الانتروبولوجية، وتشكل سجلاً حافلاً بالعادات والتقاليد، وتفرد للفولكلور حيّزاً واسعاً، وهذا ما يجعلها وثيقة معرفية الى كونها عملاً فنياً يستحق القراءة.