البنت الصغيرة التي تهبط السلم في الصباح تذكرني بابنتي التي لم أرها من سنتين. العمر نفسه. ثمانية أعوام. والوجه الصافي والشعر الأشقر القصير والعينان العسليتان. أخذتها أمها يوماً واختفتا. ذهبت على ما سمعت عند أحد أقاربها البعيدين. قريب أو بعيد. لم أحاول البحث أو السؤال، معها أوراق تفيد بعدم صلاحيتي لتربية البنت، أعطاها لها الطبيب. وأقول لهم أن هناك من الأطباء من يعطي هذه الشهادات بمقابل. ويقول واحد من أهلها: أي مقابل؟ وأقول: اسألها. وقال واحد منهم أخيراً: اخرج بالمعروف. وخرجت. تركت البيت بما فيه، أغضبني ما قالوه عن عدم صلاحيتي، البنت كانت تنام الليل في حضني، وأمها تغيب باليوم واليومين عند أقاربها وتتركها معي، والبنت فرحة ببقائها، نلعب لعبة الاستخفاء، ونقص الصور من الجرائد والمجلات القديمة، نلصقها بالدولاب والبوفيه والثلاجة والأبواب، وتأتي من غيبتها، تهب فينا بعنف ويحمر أنفها، نتبادل أنا والبنت الابتسام في الخفاء، تمزق الصور وتظل في غضبها يومين لا تكلمنا. يستقر مقامي في غرفة فوق السطح. وأشتاق لرؤية البنت، أركب الأتوبيس والمترو، أقف في شارع جانبي وكوفية تخفي نصف وجهي، أنتظر أن تطل من البلكونة أو تخرج للعب على رصيف البيت مع الأولاد، ويمضي اليوم ولا أراها. أعود بعد يومين، ولا أراها، ثم رأيتها، كانت بالشورت وبلوزة وحذاء من القماش، وفيونكة تجمع شعرها من الخلف، وقفت لحظة لا تشارك في اللعب، ثم شاركتهم، اقتربت وأرخت الكوفية عن وجهي، توقفت محدقة نحوي، والأولاد توقفوا، تراجعوا، خطوة وأخرى، وابنتي ظلت واقفة تحدق ثم تراجعت هي الأخرى واستدارت مهرولة إلى داخل البيت. لحقت بها في الردهة قبل أن تصعد السلم، انحنيت لأقبل وجهها، أبعدته. وقفت منكسة الرأس. قلت: - أنا بابا يا نادية. - عارفة. - تهربي مني؟ - ماما قالت لي لا أكلمك ولا آخذ منك حاجة. - بس أنا بابا. - عارفة. كنت أمسك كتفها، تركته. انطلقت تصعد السلم، وقبل أن تستدير مع انحناءة الدرابزين نظرت إلى الردهة ورأتني لا أزال واقفاً، رمقتني لحظة ثم واصلت صعودها. أتساءل في عودتي عما قالوه لها عني، ليكن في أوراق الطبيب ما يكون، ولكنها ابنتي. نبهني كلامي معها إلى أنني لم أحمل معي لعبة. مرت أيام وعدت لأراها. هذه المرة ذهبت باكراً ومعي عروسة كبيرة. كانت تقف على رصيف البيت في انتظار أوتوبيس المدرسة. اقتربت، صوت يدوي صارخاً من بلكونة، لا بد أنها أمها تحذرها، والبنت رفعت رأسها إلى البلكونة كما رفعت رأسي، ذراع أمها تشير نحوي، والبنت استدارت تنظر إليّ، تراجعت خطوة ووقفت مترددة، ترمق حقيبتها التي تركتها على الرصيف، وترمقني، وبدا ما يشبه الرجاء في عينيها. وصاحت أمها: - اتركيها. اتركي الشنطة. البنت استمرت ترمقني وترمق الشنطة، بدا أنها ستتقدم نحوها، مددت يدي بالعروسة، لمحتها خطفاً واندفعت داخل البيت. أقف مكسوراً أحدق نحو الشنطة، تقدمت ووقفت بجوارها، أشعر بصفاء غريب في ذهني، وكأن السحب انقشعت وسطعت الشمس، أتحسس مقبض الحقيبة، وقلت أنتظر الأوتوبيس، أنبه السائق لكي ينتظر مجيئها وأمضي. وانتظرت. كان أحدهم قادماً من باب البيت، يلبس بالطو فوق البيجامة، وشبشباً في قدميه، شعره منكوش يسويه بأصابعه. تأملت وجهه غير المغسول وعرفته، قريبها الذي ذهبت لتغضب عنده، وقف راسخاً غير بعيد. قال في سخط: - اتفقنا أن تخرج بالمعروف. حصل؟ أقف كالتائه لا أعرف ما أقول، أخرج يده من جيب البالطو، بأصبعه خاتم من الفضة بفص أزرق، أحدق في الفص وكان يتوهج بألوان كثيرة عندما يتعرض للشمس. وجاء صوته منذراً: - حصل؟ أنظر إليه، عيناه واسعتان عكرتان، كانت زوجتي تمتدحه في ما مضى وتقول إنه مثل خالها، العصب في ساقي ملتهب، أعاني منه، تهاجمني نوبات الألم من حين لآخر فيتصلب ساقي، واختار هذه اللحظة، يشتد الألم فأخفف الضغط على قدمي مائلاً إلى الجانب الآخر، ثم أجدني أخجل في وقفتي. أستدير خجلاً من نفسي وأبتعد، ويأتيني صوته: - لو شوفتك هنا مرة ثانية! وأعود إلى غرفتي.