يؤثر الحدَث دائماً في مستوى الظاهرة، فالأزمات المالية أو التطورات السياسية أو الصرعات الفنية والفلسفية تؤثر في الظواهر أو التشكلات الفكرية القائمة. في الأزمات العربية الأخيرة حصل فرز داخل التيار الليبرالي، بعض الذين صمّوا الآذان بأنهم ليبراليون كتبوا عن «حنينهم إلى الشيوعية واللينينية»، والبعض الآخر عاد إلى قواعده في الإسلام السياسي سالماً، وهكذا فرزت الأحداث الظاهرة الإسلامية نفسها التي تشترك بما يسمى ب«آيديولوجيا الكفاح»، هذا المصطلح المستمد من ورشة أركون في مشروعه حول التطبيقات الإسلامية يجمع الظاهرة الإسلامية مع بعضها البعض، ليجعل الاختلاف بين أولئك مجرد درجات تبلغ الذروة بحمل السلاح وتفخيخ الجسد وتصل إلى مسميات التنوير أحياناً أو تحرير العقل الإسلامي. لقد كان الفرز كبيراً هذه المرة. ثم إن الفرز ليس شرطاً أن يفرّق بل ربما جَمَع، هكذا تقع الطيور على أشكالها، إذ سرعان ما شاهدنا الرجوع إلى الخلف والعودة إلى العش الأول شيوعياً كان أم أصولياً واضحاً وماثلاً أمامنا، والمشكلة أن التيار الليبرالي- بالخط العريض - ليس تياراً محكماً، إذ ليست لديه تجارب سياسية بمعنى التجربة، فهو باقٍ في إطار التمثيل الفردي، وعليه فلا يمكن تحميله ما لا يحتمل، لهذا ضمّ التيار الليبرالي منذ «سنين العرائض» ما ليس منه، وسمعنا عن مصطلحات جديدة هي ضد جوهر الليبرالية التي هي فضاء مثل قول ناشط سياسي سعودي: «أنا ليبرالي وفق الكتاب والسنة!»، ذلك أن الليبرالية فضاء عام لا يمكن سحب مفهومه ضمن سياقات أخرى للنجاة بالذات من الحسابات الجماهيرية وربما كان هذا الإطلاق ليس عن علم، ذلك أن الليبرالية مفهوم لا يضاد ولا يوافق وإنما يمنح الفرد بفردانيته حرية الرفض أو الاتفاق. وإذا قُدّر للإنسان أن يغشى المجالس الشعبية بعد طول انقطاع عن البلدات فسيرى الاختلاف قليلاً على مستوى التطور الفكري، بل ران على قلوب الكثيرين ما يمنعهم عن سماع الآراء الأخرى، إذ تراهم في حال من الصمت المطبق، والجليّ في هذه الأيام أن الأحداث الأخيرة لم تجرّ إلا المزيد من التطرف والمزيد من الضغط الاجتماعي والشعبي والجماهيري، الأحداث العربية الأخيرة ملأها أصحاب آيديولوجيا الكفاح من حملة الحل الإجباري الأصولي الأحادي ملؤوها بالأعطال الآيديولوجية واستمروا في ضخ المشاعر المؤهلة لاصطياد اليائسين وأخذهم إلى خنادق الموت شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً. لن يكون الإرهاب ماضياً، بل هو مرض القرن الجديد، وهو يتطور ويتشكل تبعاً للخرائط التي تتجدد، وما إن نشبت الأزمات العربية الأخيرة وما إن أدمن الناس على الشوارع والميادين حتى صار الأتباع للأصوات العالية والمتشنجة وللخطب الحمقاء هو الأساس لكن غاب العقل، غاب الباحث في المكتبة أو المتأمل على طاولته وكتابه أو الذي يبحث عن التغيير الحقيقي. لم تجر الأزمات الأخيرة إلا بروز أصوات مراهقة هي طارئة على الثقافة، تحاول أن تستبسل بالدفاع عن أصوات الجماهير، بينما هي تدافع عن الانسحاق التام تحت نيران الحدَث الأهوج الذي يضرم النيران على ما تم بناؤه على علاته. المشكلة في الشعارات المطروحة والكلمات والخطابات أنها لا تزال تتغذى وتعبّ من النهر نفسه الذي أتى بالطاغية، ومن هنا يكون التجديد في تغيير منابع الغذاء ومنابع التطور وحدوس الاستلهام، لقد تخشّبت المفاهيم السياسية كما الفكرية، وهذا يذكرني بانتقد جاك دريدا للمفاهيم السياسي والقانونية الفرنسية في التسعينات من القرن الماضي حين قال ضمن حوار: «قوانيننا ومصطلحاتنا السياسية لا تزال ميتافيزيقية في أساسها، بغض النظر عما إذا كانت تصدر عن اليمين أو اليسار». الأزمات هذه رسخّت الإرهاب أكثر وجعلتنا أمام حلم وواقع، الحلم في الشارع والصورة والأهازيج، والواقع في الأرقام والأحداث والقتلى والدماء. [email protected]