كما أن هناك علامات تجارية لا يمكن إغفالها، فكذلك هناك كتاب لهم الدلالة نفسها، من حيث إن العالم يترقب كتبهم الجديدة، ومنهم إمبرتو إيكو، الكاتب الإيطالي الذي يعود للكتابة الروائية بعد توقف 6 سنوات، وبعد ثلاثين عاماً من إصدار روايته الأشهر «اسم الوردة»، بروايته «مدافن براغ»، ليثير الكثير من الأسئلة وهو يدخل بنا في عالم القرن التاسع عشر ما بين تورينو وباليرمو وباريس، وليضع الحقائق التي نعهدها محل شك. رواية «مدافن براغ» هي السادسة فى مسيرة الروائي الإيطالي إمبرتو إيكو وبمجرد صدورها في عام 2011 طبعت أكثر من طبعة. رواية تتعرض لأحداث جِسام واجهتها أوروبا القرن ال19 حيث جو الدسائس والمؤامرات والغش والتضليل والتزوير. وتتساءل الرواية عن دور اليهود والماسونية في هذه الأحداث، وبالذات مدونات يطلق عليها «بروتوكولات حكماء صهيون»، وهل هي حقيقية أم مزيفة. ويقول إيكو: «لم أرسم مخططاً لهذه الرواية، بيد أنني تخيلت بطلاً يعيش في القرن التاسع عشر، ويعاني من ازدواجية في الشخصية، ومن ناحية أخرى تطرقت إلى بروتوكولات حكماء صهيون، التي كنت مهتماً بها منذ فترة طويلة، ذلك أنها تكشف بوضوح تأثير الوثائق المزيفة في صناعة التاريخ». بطل الرواية الرئيس، هو «سيمون سيمونيني»، الذي يعد أكبر جاسوس ومزور عالمي للوثائق، عمل لحساب الإيطاليين والفرنسيين والروس خلال حرب 1870 ويعد المزور الأساس للبروتوكولات. «سيمونيني»، هذا البطل الوحيد المتخيل وسط شخوص حقيقية، هو نموذج للكراهية والحقد، يعادي نفسه بالأساس، بغيض، وكأن إيكو يكتب ممجداً الكراهية. وفي إحدى المقابلات سألوا إيكو عن غرابة شخصية بطله هذا وعن الكره والحقد والبغض الفاضح في سلوكه، فأجاب: «إن ثمة وفرةً من الروايات المكرسةِ للحب وحان الوقت لشرحِ الكراهية، التي هي شعور منتشر أكثر من الحب (وإلا ما كان هناك حروب أو جرائم أو سلوك عنصري). الحب علاقة انتقائية (أنا أحبك وأنت تحبني وبقية العالم مستثنى من هذا الشعور)، في حين أن الكراهية عامة، اجتماعية: يمكن جماعة من الناس أن تكره أخرى، لذلك يطلب الديكتاتوريون من أتباعهم الكراهية (لا الحب)، ليحفظوا شملهم. وحيث إني قضيت طفولتي تحت ديكتاتوريةٍ فاشية، أتذكر أنني كنت ألقَن دائماً كراهية بلدٍ آخر، وأشجع على محبة موسوليني فقط. لحسن الحظ لم يجدِ هذا النوع من التعليم، ولهذا كتبت «مقبرة براغ»، ولأن سيمونيني يمجد أفكاراً خطرةً وكريهةً للغاية كان من الضروري أن أجعل منه كريهاً بالمقدار ذاته. هل كان الحل محفوفاً بالأخطار؟ خفت أول الأمر أن يكون كذلك. غير أن الإحصاءات أقنعتني وما زالت تقنعني بأن عدداً كبيراً من القراء في بلدان مختلفة قبل اللعبة. إلى جانب ذلك، تاريخ الأدب يضم كثيراً من الشخصيات السلبية». إمبرتو إيكو فى «مدافن براغ» يضع التاريخ فى مصفاة الأدب، ويعيد تشكيل الحقيقة بوعي المبدع، عبر لغة واعية ومكثفة، من خلال شخوص تدور في فلك بطله سيمونيني، الذي تتضح له الرؤية تدريجاً، بينما كان يستعيد وعيه، كانت غيوم الاضطراب تنقشع تدريجاً وأصبح كل شيء أمامه واضحاً. تعافى، وأدرك أنه و «دالا بيكولا» أصبحا شخصاً واحداً. كان قادراً على أن يتذكر ماذا كتب «دالا بيكولا» في المساء الماضي - بعبارة أخرى، تذكر جيداً أنه هو ذاته، مرتدياً زي آبي دالا بيكولا (وليس ذلك الشخص بالأسنان الناتئة الذي قتل، ولكن ذلك الآخر الذي أعيد إلى الحياة وتشخصن بشخصية أخرى لسنوات عدة. كان حاضراً التجربة الرهيبة للقداس الأسود. وقد تكون تلك المرة الوحيدة في تاريخ الأدب التي نرى فيها بطلاً لعمل أدبي بهذا الكم من الحقد والكراهية، بطلاً لا تتعاطف معه بمقدار ما تتفهم دوافعه وبمقدار ما يجبرك على التركيز في ما يقوله. بطل كأنه في حال صرع طوال الوقت، يعد للاتصال الجسدي مع «ديانا»، والكشف عن أصولها الحقيرة وضرورة هذه الأصول لها، وطقوس الموت في الغالب تعد شيئاً كثيراً تعلقا به، وفي تلك الليلة ذاتها التي فقد فيها ذاكرته، أو بالأصح، أن دالا بيكولا وسيمونيني فقد كلاهما ذاكرته، وتبادلا الشخصيتين على مدار شهر. في كل الاحتمالات، وكما حدث لديانا، فإنه لا بد من أن يتحول من حال إلى حال أخرى خلال تشكل المعضلة - حال صرع، إغماء، مَن يعرف - ولكن من دون أن يكون مدركاً إياها، وهكذا فإنه في كل مرة يستيقظ فيها يفكر أنه نام نوماً عميقاً. «مدافن براغ» رواية قوبلت بكم من الهجوم المتوقع من رموز المسيحية واليهودية، على حد سواء، وتفاوت موقف نقاد الأدب منها بين الرفض والقبول، لأن بطلها الجاسوس معادٍ بشدة للسامية. وإمبرتو إيكو نفسه توقع ما صاحب صدور روايته قائلاً: «حين كتبت هذه الرواية، كنت أدرك أني أتطرق إلى موضوع حساس، لذلك طلبت من أربعة أصدقاء يهود قراءة الرواية. أحدهم قال لي إنه لن يغضب من اليسوعيين أكثر من اليهود، والآخر طلب مني أن أحدث حاخام روما حتى أتفادى أي سوء فهم، وكان متحفظاً عن أن بعض القراء سيأخذون الكلام المعادي للسامية الذي تلفظت به بعض شخصيات الرواية على محمل الجد، وأجبته بأني لم أقم إلا باقتباس جمل من الوثائق المتوافرة في المكتبات وعلى شبكة «الإنترنت». أنا لا أنشر أفكاراً جديدة ولا حججاً جديدة، والمعادون للسامية ليسوا في حاجة إلى قراءة روايتي حتى يكتشفوا هذه الأفكار». «مدافن براغ» عمل أدبي متميز حرك المشهد الثقافي الأوروبي وما زال يحركه منذ 2011 حتى الآن.