حرص الباحث والكاتب والناقد الإيطالي أومبرتو إيكو في سياق المؤتمر الصحافي الذي عقده في إسرائيل في شباط (فبراير) الجاري في مناسبة حلوله ضيفاً على المعرض الدولي ال 25 للكتاب في القدس، على تأكيد أنه يعارض أي شكل من أشكال مقاطعة إسرائيل أو الإسرائيليين، وأنه يعتبر ذلك «مظهراً من مظاهر العنصرية» التي سبق أن اكتوى بها شعبه إبان سيطرة النظام الفاشي. وفي شأن استنكافه عن توجيه النقد إلى الاحتلال الإسرائيلي أو إلى سياسة حكومة بنيامين نتانياهو، على غرار ما فعل الكاتب البريطاني إيان ماكيوان الذي اشترك في المعرض نفسه وتسلّم خلاله «جائزة القدس»، قال إيكو: «لديّ ما يكفي من عبارات النقد إزاء الحكومة الإيطالية، على نحو لا يبقي أي متسع من الوقت للكلام على الحكومة الإسرائيلية»، معللاً ذلك بكونه «شخصية ثقافية لا تتدخل في السياسة». ولدى تطرّق إيكو إلى آخر رواياته وهي «مدافن براغ» التي تستند إلى كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون»، وتتضمن وصفاً للجو الخاص الذي ساد في المجتمع الأوروبي في نهاية القرن الثامن عشر، وشخصياتها هي عملاء مزدوجون وجواسيس وسياسيون يهود وغيرهم، وتخلص إلى استنتاج فحواه أن اليهود كانوا من وراء الكواليس المسؤولين الرئيسين عن انفجار الثورة الفرنسية عام 1789، ما اعتبر عنصراً مركزياً في تأجيج موجة العداء للسامية في أوروبا في القرن التاسع عشر، أكد أن هذه الرواية تعتمد على وثائق حقيقية وتوظف شخوصاً تاريخية إلى جانب أفكار متخيلة، كما هي الحال في سائر رواياته وخصوصاً روايته الأشهر «اسم الوردة». وأعرب عن بالغ سعادته لتمكنه من الحديث عن تلك الرواية، التي أثارت أصداء متفاوتة في أوساط الجالية اليهودية في إيطاليا، قبل إنجاز ترجمتها إلى العبرية، لأن ذلك «يوفر فرصة لعدم توجيه نقد صارم وظالم إليها»، على حدّ قوله. وكان إيكو عشية زيارته هذه قد أدلى بمقابلة مطولة إلى صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية تحدّث فيها عن روايته الأخيرة، وكرّر الأفكار التي نطق بها في شأن مقاطعة إسرائيل، وقال إن على المثقف أن يتصرّف في أوقات الأزمة مثل أي شخص آخر، لأن تأثيره في الواقع يمكن أن يكون ذا وقع خاص لمساً ورؤية، إمّا قبل اندلاع الأزمة وإمّا بعد الخروج منها فقط. وأضاف أن مسألة تدخل المثقف في السياسة تظل شأناً فردياً مرهوناً به وحده، وإن كان يعتقد أن المثقف عموماً لا يؤدي دوراً محدداً في السياسة، وأن أقصى ما يمكن أن يتسم به دوره فيها لا يتجاوز الجانب الدعائي، مطالباً بعدم المبالغة في إيلاء دور ومكانة للمثقف في المجتمع. ومنح إيكو شهادة حُسن سلوك للكتاب والمثقفين الإسرائيليين في معرض ردّه على سؤال كان فحواه: ما الذي في مستطاع هؤلاء المساهمة فيه إزاء الشأن السياسي الإسرائيلي، حين أكد قائلاً: «أعتقد أنهم يساهمون في هذا الشأن. وأنا أعرف بعضاً منهم مثل أ. ب. يهوشواع وعاموس عوز اللذين لديهما حضور دائم في حقل نقد سياسة الحكومة الإسرائيلية، ناجم عن كونهما يحللان ويقومان بدورهما كمثقفين، ويحذران من الأخطار الماثلة، وينقدان أخطاء تُرتكب. وفي الإجمال العام، فإن الكتاب والمثقفين الإسرائيليين يؤدون الدور الذي يتعين عليهم تأديته». ما يمكن ادعاؤه هو أن إيكو لا يعير اهتماماً لحقيقة أن مساهمة الكتاب الإسرائيليين في معظمهم في الشأن السياسي العام تبقى أدنى أهمية وخطورة من مساهمة نصوصهم الأدبية في تطهير واقع علقت به شوائب أخلاقية كثيرة، والتي كانت مساهمة سياسية - أيديولوجية بامتياز. فمثلاً، عقب الحرب الأخيرة على غزة (في شتاء 2009)، كتب الباحث الإسرائيلي أورن يفتاحئيل أن من شأن تأمل الأحداث العنيفة بصورة معمقة من وراء ركام الدمار المريع وسحب الدخان وأشلاء الجثث وبقع الدماء وصرخات الأطفال، أن يتيح إمكان فهم هذه الحرب على أنها استمرار للمشروع المترتب على سلوك ثقافي - جغرافي إسرائيلي تبنى هدفاً متشدداً ووحشياً يتمثل في إسكات الزمن الفلسطيني، أي محو التاريخ الكامل لهذا البلد. وغني عن القول إن إسكات التاريخ يشكل أيضاً محواً للمكان الفلسطيني ومعه الحقوق السياسية الكاملة، تلك الحقوق القائمة بحق مشروعيتها لا بمنّة من إسرائيل. وعليه، فإن الغزو الإسرائيلي لغزة هو ليس فقط عملية لوقف إطلاق الصواريخ، أو مسعى لتلميع شخصيات سياسية تمهيداً للانتخابات الإسرائيلية العامة، أو محاولة لترميم قوة الردع الإسرائيلية. كما أن الغزو ليس فقط محاولة أخرى «لفرض النظام» لدى آخرين وإسقاط حكومة «حماس»، وليس مسعى إمبريالياً (إسرائيلياً - أميركياً) للسيطرة على حيز إسلامي بمستويات متصاعدة من العنف. إن هذا الغزو هو تلك الأمور كلها بطبيعة الحال، ولكنه أيضاً استمرار لإستراتيجيا مديدة الأعوام من إنكار ومحو وشطب أي ذكر لتاريخ هذا المكان في العصور الأخيرة. ومشروع المحو هذا ينخرط فيه الجميع تقريباً: السياسيون والفنانون ووسائل الإعلام والباحثون في الجامعات والمثقفون الإسرائيليون. إن الدارس أو المتتبع للعلاقة بين أهل الفكر والأدب العبريين وبين الرأي العام اليهودي والإسرائيلي (قبل إقامة دولة إسرائيل وبعدها)، في إمكانه أن يلحظ بسهولة ويُسر أن هناك عملية طمس ممنهجة ميّزت الأدب العبري وكُتابه إزاء الإنسان الفلسطيني والعربي، وفي الأساس إزاء الرواية الفلسطينية. فمنذ الأيام الأولى للاستيطان الصهيوني في فلسطين التاريخية، في نهاية القرن التاسع عشر، ثبّت الأدب العبري ورموزه العربية والفلسطينية كإنسان بلا معالم، يقوم ويحيا ويتواجد في الحيز «الرعوي»، شبه البربري، الفلاحي، كخطر أمني أو إستراتيجي على الاستيطان وعلى احتمالات توسعه في «أرض الميعاد». وسبق لعاموس عوز أن اعتبر أن «دور الكاتب في المجتمع» أقرب إلى دور مطفئ الحرائق، غير أن معاينة سريعة لأدب عوز سرعان ما تشي بأن الغاية الأهم المضمرة لعملية إطفاء الحرائق متمحورة من حول الذات لا من حول الآخر، وفحواها تجميل الكينونة الإسرائيلية ضمن وجهة «تأخذ في اعتبارها الحاضر أساساً، وليس الماضي التاريخي فقط»، كقوله. بكلمات أخرى، فإن عوز يبدو الأكثر إخلاصاً ل «اليوتوبيا الصهيونية»، وفق ما هجس بها مؤسسها بنيامين هرتزل في أواخر القرن التاسع عشر، من خلال تجاهل وجود الشعب الآخر، الشعب الفلسطيني، الذي استحال إلى تجاهل حقوقه والدوس عليها في ما بعد. وبذا، فإنه يواصل تقاليد أسلافه من الذين سبق أن استأنفوا على هذه «اليوتوبيا» من موقع الحماسة لها لا من موقع البديل الراديكالي، وبطريقة تتجاهل ما اتسم به تطبيقها من وقائع آثمة ما زالت مفاعيلها مستمرة. * كاتب فلسطيني - حيفا